دعتني منذ أسبوع كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، لألقي محاضرة عامة في افتتاح المؤتمر الذي أقامته تحت عنوان "التسامح الديني في مصر: شواهد تاريخية"، وقد جذبتني فكرة المؤتمر كثيرًا ليس فقط لحاجتنا إلى أن نبحث عن عقول مستنيرة نسترشد بها، بل لأن الراعي الرسمي لهذا المؤتمر هو جامعة الإسكندرية التي أتاحت الفرصة لغير منسوبي الأزهر الشريف والكنيسة المصرية، ليدلوا بدلوهم أيضًا مستشهدين بالتاريخ والكتب المقدسة وسنن النبيين.والسبب الثاني الذي جذبني لهذا المؤتمر أنه جاء قبيل مولد الحبيب المصطفى بأيام قليلة، ليؤكد سمات المحبة والتسامح بين المصريين عامة، وأن القاريء للكتاب المقدس والقرآن الكريم سيظفر بحصيلة لا حدود لها من صور المحبة والعفو والتسامح المشتركة بينهما. مما دعانى في كلمتي أن أستشهد بالكتاب المقدس أيضًا الذي قال: "أغفروا يغفر لكم"، وكذلك "أحبوا بعضكم بعضا"؛ إلى جانب القرآن الكريم والسنة النبوية لأبين أن الأزهر الشريف والكنيسة القبطية يعملان معًا لنشر ثقافة الحب والتسامح.وفي ذكرى المصطفى ما أكثر الأمثلة التي نستقيها من سيرته العطره لندلل بها على سمة العفو والتسامح، سواء مع بني جلدته، أم مع الآخر. فالمعروف عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يقابل يومًا قط الإساء بإساءة، فحين توجه إلى ثقيف بالطائف ليدعوهم إلى الإسلام، سلطوا عليه أطفالهم وعبيدهم ليقذفوه بالحصى حتى سالت الدماء الشريفة من وجهه. وهنا-وهو في طريق عودته إلى مكة المكرمة-قال له جبريل عليه السلام: "لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين"؛ والأخشبين هنا جبلين عظيمين يقعان بين الطائف ومكة. غير أن محمدًا(عليه الصلاة والسلام) أبى، وجاء رده نموذجًا للعفو والتسامح، قائلًا له: "أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا." وفي المدينة وقعت حادثة كادت أن تودي بحياة النبي(صلى الله عليه وسلم)، ومع هذا كان رحيمًا عفوًا متسامحًا مع الجاني؛ حين أحسَن إلى اليهودية التي وضَعت له السمّ في الشاة التي أهدتها إليه، فعفا عنها وغفر لها وصرفها، رغم اعترافها له بمحاولتها قتله.وذات يوم كان يرتدي صلى الله عليه وسلم بُردًا نجرانيًا غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة، حتى شوهد صفح عنق رسول الله قد أثَّرت بها حاشية البُرد من شدة جذبته، فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك؛ فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء.ومن صور التسامح الديني عند النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم، حين وصل وفد نصارى نجران إلى المدينة لمقابلتة للتعرف على الإسلام، صَحَّ عَنه أَنَّهُ أَنْزَلَ وَفْدَ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي مَسْجِدِهِ وَحَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَصَلوا فِيهِ. وهنا كانت دعوته الكريمة لهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بالسلطان والقوة، امتثالًا لقوله تعالى:﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.أما أعظم صور التسامح فكانت يوم فتح مكة، حينما تملك رسولنا الكريم أمر من آذوه وضيقوا الخناق على أتباعه، واضطروهم للخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة ثم يثرب؛ وبرغم ذلك لم يرد الإساءة بإساءة، وخاطب أهلها قائلًا: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فردوا عليه: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بل كرم أبا سفيان بن حرب بقوله: "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فدخل من فوره الإسلام، وأبلى فيه حتى فقد إحدى عينيه في الحرب لاحقًا.وهنا نود أن نشير إلى آية قرآنية تشكل عصب التسامح الديني، حين يقول المولى عز وجل:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَاۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. وهذه الآية الكريمة-طبقًا لجمهور المفسرين-إنما هي القول الفصل في التسامح الديني مع الآخر، وأن لا تكرهوا أحدًا على الدخول في الإسلام فإنه واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه.تلك هي سنة الحبيب محمد في العفو والتسامح، ويبقى سؤال: أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟ أَغْفِروا يُغفَر لَكُم!
مشاركة :