محمد العريان * نظراً لأننا نعول على اجتماعات البنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيدرالي هذا الشهر، وكلاهما من المتوقع أن يحافظا على موقفهما من برامج التيسير النقدي، فإن منحنى العائد على سندات الخزانة الأمريكية لم يكرر الانعكاس السابق الذي أثار القلق في اثنين من أكبر البنوك المركزية في العالم. ومثلما قلت سابقاً بأن الانعكاس في المنحنى لم يكن إشارة أكيدة على ركود أمريكي قادم، يجب ألا نتسرع حالياً في الحكم على عودة الظروف إلى وضعها الطبيعي على أنها ضوء أخضر في طريق الاقتصاد. والأرجح أنها مؤشر آخر على تشويه مقاييس الحكم على السوق التقليدية بسبب سنوات من سياسات البنك المركزي غير التقليدية.خلال الأسابيع القليلة الماضية، استعاد منحنى العائد على سندات الخزانة الأمريكية ببطء وبشكل تدريجي شكله الصعودي التقليدي، حيث تم تداول سندات الآجال الطويلة بعائدات أعلى من عائدات سندات الآجال الأقصر. في الجزء الأكثر حساسية من المؤشر، ارتفع العائد على سندات السنوات العشر إلى 1.75 % أي فوق معدلات العائد على فئة السنتين 17 نقطة أساس. وعاد منحنى السندات ذات العشر سنوات وذات الثلاثة أشهر إلى معدلاته المعتادة.لكن من الصعب الادعاء بأن الاتجاه التصحيحي المستمر ناتج عن تحسن في المؤشرات الاقتصادية. بل على العكس، فقد كان تأثيرها سلبياً بما في ذلك الانخفاض المفاجئ في مبيعات التجزئة الأسبوع الماضي، مما أثار مخاوف بشأن استهلاك الأسر، التي كانت الجزء الأكثر قوة في الاقتصاد الأمريكي. علاوة على ذلك، كان تدهور المؤشرات أكثر وضوحاً على المستوى الدولي، خاصة في الصين وأوروبا. ولا عجب أن يراجع صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي إلى أدنى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية. أخشى أنه حتى هذه المراجعات الأخيرة قد لا تكون كافية لتصوير حجم مثبطات النمو في أوروبا وأماكن أخرى في العالم.قد يمكن تفسير استعادة منحنى العائد على السندات الأمريكية مساره الصعودي استناداً إلى تصورات السوق الإيجابية لسياسات البنك المركزي المستقبلية، في الولايات المتحدة وخارجها.على الرغم من هشاشة الوضع الاقتصادي العالمي، فقد ظهرت مجموعة من الإشارات المتزايدة من البنوك المركزية تشير إلى ضعف الحماسة والرغبة في المضي قدماً في تبني السياسات غير التقليدية مثل أسعار الفائدة السلبية وشراء السندات على نطاق واسع. ويُنظر إلى مزيد من المرونة في السياسة النقدية على أنه لا ينطوي على فوائد مستدامة على النشاط الاقتصادي، هذا إن وجدت أصلاً. كما أنه يغذي المخاوف المتزايدة بشأن خطر عدم الاستقرار المالي في المستقبل، وسوء تخصيص الموارد على مستوى الاقتصاد، والسلوكيات المتناقضة من جانب أولئك الذين يشعرون بالقلق من قدرتهم على ضمان أمنهم الاقتصادي في المستقبل، بما في ذلك عمليات الادخار الكبيرة التي يحفزها ارتفاع معدلات تجنب المخاطر وتهديدات أوعية الحماية المالية طويلة الأجل، مثل خطط التقاعدية منخفضة المخاطر والتأمين على الحياة.تتضمن إشارات البنوك المركزية تلك، المعارضة العلنية والصريحة من بعض المسؤولين الحاليين والسابقين في البنك المركزي الأوروبي لزيادة جرعة المرونة في السياسة النقدية، كما تتضمن تقارير وسائل الإعلام التي تشير إلى ضعف حماسة مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي الأكثر تشاؤماً لخفض أسعار الفائدة بشكل ملحوظ. ويمكن أن يفسر ذلك أيضاً اختفاء أصوات العديد من مسؤولي مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذين أجبروا على قبول برنامج شراء السندات تجاوباً مع الاضطرابات في سوق التمويل، ومن ثم عادوا ليكرروا كلمات رئيسهم جيروم باول التي تقول «هذه التسهيلات النقدية لا تعني تيسيراً كمياً».وكلما أحست الأسواق بوجود مثل هذه التحولات في السياسة النقدية داخل البنوك المركزية، كلما زادت من توظيف توقعات السياسة التي تغذي عدداً من القوى التي تعمل على قلب منحنى العائد على السندات الأمريكية، بما في ذلك التحركات المباشرة مثل الضغط الهائل على المستثمرين الأجانب للهروب من العوائد السلبية في أوروبا واليابان، والتحول إلى السندات الأمريكية طويلة الأجل.وقد تكون هذه الظاهرة وراء بقاء فروقات العائد بين السندات الألمانية والسندات الأمريكية في حدها الأدنى الحالي على الرغم من استمرار الأداء الاقتصادي الأمريكي الأفضل نسبياً.ومثلما حاولنا التقليل من أهمية انعكاس المنحنى في مارس، كمؤشر على ركود قادم قريب في الاقتصاد الأمريكي، نؤكد حالياً على عدم المسارعة إلى الاحتفال بارتداده إلى مساره المعتاد كمؤشر على انتعاش لافت في الاقتصاد الأمريكي. ونؤكد أن كلا المسارين نتج عن تشوهات في المؤشرات الاقتصادية التقليدية بعد فترة طويلة من سياسات البنك المركزي الاستثنائية. كما ينبغي اعتبارها مجرد واحدة من العواقب غير المعتادة للأوضاع النقدية، والتي تفرض منذ عدة سنوات على البنوك المركزية بسبب عدم وجود قرارات سياسية مناسبة في أماكن أخرى، ولا شك في أن المنافع المتوخاة من تلك السياسات سوف تفسح المجال لتوسيع وتعميق الإدراك بالنتائج السلبية غير المقصودة والمخاطر الجانبية غير المحسوبة. * كبير الاستشاريين في «أليانز»
مشاركة :