يُجمع الصحافيون والإعلاميون في الجزائر، على أن قطاعهم لم يشهد طيلة مساره انحدارا كالذي يعيشه خلال الأشهر الأخيرة، بسبب التضييق والخنق اللذين تتعرض لهما المهنة من قبل السلطة القائمة، بعدما وضعت يدها بشكل غير مسبوق على الإعلام بشقيه الحكومي والخاص. وأرجأ ناشطون في مبادرة إنقاذ الصحافة الجزائرية، جميع الانشغالات المهنية والاجتماعية للقطاع إلى وقت لاحق، وكثفوا جهودهم للتركيز على إنقاذ المهنة مما يهددها من أخطار وصفت، بـ”الوجودية”، نتيجة عملية الخنق والتضييق التي تعترض العمل الإعلامي في بلادهم، ولاسيما بعدما باتت مسألة حبس الصحافيين ومتابعتهم أمام القضاء، وحتى منعهم من السفر في قضايا النشر، روتينية في نظر السلطة القائمة. وتداول أعضاء المبادرة التطورات الأخيرة في الساحة الإعلامية، بعد توقيف أربعة صحافيين من جريدة “لوتان دالجيري” الجزائرية المؤيدة للسلطة والتابعة لمجمع “وقت الجزائر” المملوك لرجل الأعمال المسجون علي حداد، على خلفية منشور صدر لأحدهم في صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، عبر فيه عن “براءته من مضمون التقرير الرئيسي في الصحيفة”، وانتقد الإفراط في التعتيم على موقف الشارع من الانتخابات الرئاسية. وحداد المتهم بالفساد والمسجون كان مقربا من أوساط الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد لعشرين عاما قبل استقالته في أبريل إثر موجة احتجاجات غير مسبوقة. وفي بيان نشر على مواقع التواصل الاجتماعي الأربعاء، أبلغت الصحيفة موظفيها بـ”الوقف المؤقت” عن العمل للصحافيين الأربعة إلى حين “اتخاذ قرار من طرف مجلس التأديب” بحقهم. وأشار البيان إلى أن هذا القرار يرجع خصوصا إلى “المساس بشكل خطير بالمؤسسة، عبر منصات التواصل الاجتماعي”. ولم تصدر الصحيفة الأربعاء فيما نفذ العاملون فيها إلى جانب موظفين في وسائل إعلام أخرى تابعة للمجموعة نفسها (صحيفة وقت الجزائر العربية وتلفزيون دزاير تي.في) اعتصاما أمام مقرها في العاصمة الأربعاء. والأحد، استقالت صحافية في الإذاعة الوطنية بسبب تعرضها “لضغوط”، وفق ما أفادت به وسائل إعلام جزائرية، فيما ندد نحو 300 صحافي مؤخرا بتعرضهم لـ”ترهيب” و”تهديدات”. مبادرة إنقاذ الصحافة تهدف إلى إطلاق سراح الصحافيين المعتقلين، وحث السلطة على كف الضغط الأمني والقضائي ورغم أن القطاع استبشر خيرا بالإفرازات الأولية للحراك الشعبي، خاصة بعد سقوط نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، وإحالة العديد من المقربين منه على السجن، إلا أنه سرعان ما تدهور بشكل كبير، حيث يذكر بعض الإعلاميين المخضرمين، أن “الوضع الحالي للإعلام لم يُشهد حتى في زمن الأحادية الحزبية والسياسية والإعلامية (1962 - 1989)، وأن ما يعيشه القطاع خلال الأشهر الأخيرة لا يقارن حتى بما كان خلال عهد بوتفليقة”. وأكد الإعلامي المستقل أكرم خريف، في تصريح لـ”العرب”، أن “مبادرة إنقاذ الصحافة، هي مبادرة عاجلة من أجل إطلاق سراح الصحافيين المعتقلين، وإخلاء سبيل المتابعين قضائيا، وحث السلطة على توقيف الضغط الأمني والقضائي على الصحافيين”، وهو ما يؤكد حجم المخاطر التي تهدد الحريات الإعلامية في الجزائر، حيث يقبع أربعة صحافيين في السجن في قضايا تتصل بالنشر، كما يتعرض آخرون للمتابعات القضائية وحتى المنع من السفر. وباتت أدبيات وتقاليد المهنة مغيبة تماما في الإعلام المحلي، نتيجة ضغوط إدارات التحرير الواقعة تحت إكراهات غير مسبوقة في مسار المهنة، حيث تجبر منذ عدة أشهر مختلف وسائل الإعلام بشتى أنواعها على تجاهل الأوضاع السياسية السائدة في البلاد، ولاسيما أحداث الحراك الشعبي والمسيرات الشعبية الأسبوعية، فضلا عن الدفع إلى غلق بعض القنوات التلفزيونية الناشطة في الخارج. ورغم ظهور تنظيمات مهنية في القطاع، على غرار المجلس الوطني للصحافيين الجزائريين، إلا أنها لم تستطع إحداث التوازن المطلوب في المعادلة وفرض نفسها كسلطة رابعة، الأمر الذي حوّل الإعلام المحلي إلى مصدر غضب واستياء للشارع الجزائري، إذ لم يعد بإمكان الصحافي الجزائري الكشف عن هويته في زخم المظاهرات نتيجة حدة الغضب التي يحملها معارضو السلطة للعاملين في القطاع. وتراجع تصنيف الجزائر في ترتيب حرية التعبير بخمس درجات مقارنة بالعام الماضي، حيث باتت تحتل المرتبة الـ151، وهو تصنيف يعكس حقيقة الحريات الصحافية والإعلامية المتدهورة، رغم خطاب السلطة المروج للديمقراطية والتعددية السياسية والإعلامية. ويرى الإعلامي أكرم خريف، أن “الهدف الآخر من المبادرة هو لم شمل الصحافيين، الذين يعانون من التفرقة والضغوط الخارجية، بغية البحث عن حلول لمستقبل المهنة المهددة بالزوال، وقد اختار المؤسسون أن تكون بعيدة عن الانتماءات السياسية أو الانحياز الأيديولوجي ولفت إلى أن “المبادرة تبقى مفتوحة أمام جميع الصحافيين الجزائريين، وهي ذات أبعاد أخلاقية ومهنية، وليست اجتماعية أو متصلة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي للصحافي وإن كان وضعا مزريا”، وهو تلميح إلى التركيز على أولوية الوضع المهني المتدهور، في ظل القبضة الحديدية التي تحكم القطاع، وتوجيهه لصالح مقاربة تدعم الخيارات السياسية للسلطة لا غير، ودون احترام لمهنية وحياد الفعل الصحافي أو حرية التعبير. وفي خطوة لكسر الطوق المضروب على الصحافيين، نظمت المبادرة وقفة في المسيرة التاسعة والثلاثين من عمر الحراك الشعبي، شارك فيها العشرات من الصحافيين للتعبير عن موقفهم الرافض لسياسة القمع والتكميم المطبقة في المؤسسات الإعلامية المختلفة بمختلف تنوعاتها، ومطالبتهم السلطة برفع الضغوط المضروبة عليهم، مما هز مصداقيتهم لدى الرأي العام وأساء لسمعة وشرف المهنة، وقدم العديد من الصحافيين المشاركين في المربع المنتظم موقفهم ومطالبهم المهنية، ودعم بعضهم لمطالب الحراك الشعبي بالمشاركة الفردية في مختلف الفعاليات الاحتجاجية. وجاءت وقفة مبادرة إنقاذ الصحافة في مسيرة الجمعة الماضي، تجسيدا للعديد من الأفكار والتصورات التي تم تداولها في لقاء حضرته وجوه إعلامية من مختلف المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة، وتركت المجال مفتوحا أمام التشاور حول الخطوات القادمة بغية الدفع بالسلطة إلى مراجعة سياستها تجاه أداء القطاع الإعلامي، والسماح بفتح الأجواء أمام حرية التعبير والإعلام. ولا يزال التعتيم الممارس على فعاليات الحراك الجزائري مثيرا للجدل، مقارنة بالتغطية التي تحظى بها الأحداث الجارية في لبنان والعراق حديثا وذلك قياسا بعمر أحداث الجزائر التي ناهزت شهرها العاشر، ومدى قدرة السلطة على تجنيد الإعلام الداخلي أو حتى جزء من الإعلام العالمي، بسبب تجاهل الأوضاع السياسية السائدة. وساهم أسلوب المفاضلة والانحياز لصالح المقاربات السياسية للسلطة من قبل الإعلام المحلي، مقابل التعتيم على الحراك المعارض للسلطة، في تغذية الاستياء لدى الشارع الجزائري تجاه الصحافيين الذين تحولوا إلى مغضوب عليهم بشدة في المسيرات الشعبية والاحتجاجات، قبل أن تنتفض مبادرة الإنقاذ لدعم المهنية الصحافية.
مشاركة :