عماد أبو صالح.. كان نائماً في سرير الشعر حين قامت الثورة (1)

  • 5/16/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في صورة الفنان شابًا يقرر جيمس جويس، عبر بطله ستيفن ديدالوس أن شخصية الفنان تكون في البدء صرخة، فترة انتداب ومزاج، وفيما بعد حكاية واضحة وواسعة، وفي الأخير يمتلك النبل حين ينفصل عن العالم الخارجي ولا يرمز إلى شيء. هذا هو حال ومآل وموقف عماد أبو صالح مما شهدته مصر من ثورة بموجتين. فقد كان نائماً حين قامت الثورة كما جاء عنوان آخر مجموعاته الشعرية. وفي الواقع لم يكن نائماً بقدر ما حاول أن يبدو متناوماً. حيث تفصح المجموعة عن ذات على درجة من الأنتباه والنبالة إزاء ما حدث. تريد إيهام القارئ بأنها ذات أرّاخة، بعيدة بمسافة عن الحدث، وتكتب عن لحظة مغايرة. بدون أي احتراز في استخدام مفردة الثورة. وبما يشبه رفع الستارة إيذاناً بعرض مسرحي تراجيدي، أو ما يُعرف نقدياً بالإيماءة الكبيرة، تُفتتح المجموعة. وذلك بعرض حكاية شعرية منثورة تؤرخ بمنطق استقرائي لتاريخ القتل في حياة البشر. قصة أخ يصفع أخاه الصغير بكل غلظة الأخ الكبير. وفيما ينسى الأخ الصغير بفعل التراكم الزمني تلك الصفعة الأخوية، يظل الأخ الكبير مجروحاً بمشهد بكاء أخيه. يتذكر الدمعة الوحيدة التي سقطت من عينه. حارّة وحرة كلؤلؤة. يتألم لأنه تحسّس الحزين العدواني في داخله لكن يدي لا تزال تؤلمني إلى اليوم. وكأنه يريد التطهُّر من منزعه القابيلي. إذ يبدو، حسب استنتاجه الشاعري أن في كل عائلة، منذ بدء الخليقة، مشروع قابيل وهابيل. فيما يبدو مقدمة لرثاء مستوجب للبيت المصري. لكأنه يموضع نصه الدرامي على سجادة رجراجة من الحزن العميق. وذلك وفق مستوجبات القصيدة المُمسرحة، التي تحكم مفاصل المجموعة. من خلال تلك الحكاية الإستهلالية البسيطة في تركيبها اللغوي، العميقة في دلالاتها، يفلسف الوجود الإنساني ليُسقط رؤيته التأمُّلية على الحدث المصري. فهو يكتب النص الشعري في طور الفهم والاستيعاب لما حدث وما يمكن أن يحدث. حيث لا تدفعه تجربة الحرب بين ناسه إلى النضوج الثوري الكاذب. بل جعلته مُقعداً في حالة من البلادة والذهول والسخط المكتوم. يختبر عافية خياله على حافة الواقع. وبموجب ذلك التدمير الوحشي للبراءة، صار يمارس التفكير بالكلمات الشاعرة، وعبر نصوص تعتمد في مجملها على حركة إيقاعية واحدة، وبنظام بلاغي واحد. حيث يرتد عميقاً في جوهر الإنسان حواء بداية الخطيئة؟/ لا/ هذا خطأ/ حواء البداية الصحيحة. ولكن كيف؟. ليجيب بشيء من التنغيم المسرحي كان آدم يعيش، كملاك، في الجنة. يحلم فيجيء ما يحلمه. لكن كان هناك، عند الله، ملائكة مثله بالآلاف. أرادته كائناً فريداً. لا يشبهه أحد، ولا يكرره أحد. وهذا هو مغزي ما سماه مديح الخطأ. إنه مجروح بلا شظية، بتعبير جيمس فنتن. الذي يحاول النأي بنفسه عن تعقيدات المشهد. وعلى هذا الأساس يعيد الوهج للكلمات المهجورة، كمفردة الخطأ مثلاً. حيث صار يمجّد الإنسان الخطّاء. بحيث تبدو النصوص مغمورة بعاطفة عضوية وليست موضوعية. فمن يخطئ - بتصوره بريء. من يخطئ أكثر يصبح بريئاً أكثر. الذي لا يخطئ أبيض، معقم، نظيف. لا بقعة تدل على أنه كان عائشاً هنا، فوق التراب، وسط الناس. أعمى. ميت القلب. آلة. وبمقتضى ذلك الإعتقاد البشري صار عماد أبو صالح يربي النبالة في نسيجه الشعوري ويتعامل مع جبل الأخطاء الصغيرة التي تنحت تضاريس آدميته. فهي - أي الأخطاء ليست أحجاراً تعرقلنا حين نمر. هي تعطلنا لنمشي ببطء. لنفكر بطريقة أفضل. شموع تضيء الطرق. لئلا نندفع، مثل الثيران، إلى الهاوية. لئلا نضيع، كماء شلال، في المحيط. ليصل إلى نتيجة مفادها أن الخطأ هو ألّا نقع في الخطأ. وهو بهذا المنحى أقرب إلى تشييد المفهوم، منه إلى نحت الصورة الشعرية. كما تتضاءل النزعة التصويرية في المجموعة أمام السرد والمسرحة والمشهدية وبناء المفاهيم. وبعد فاصل إحمائي من ذم الأشجار ومديح العشب لِحية الأرض. ومديح الفراغ ومحاولة احتضان بصلة بحنان وتقشيرها طبقة وراء طبقة للوصول إلى الفراغ بما هو جوهر الوجود. يتأهب ل ذم الثورة. إيماناً منه - ربما - بمقولة غاستون باشلار بأن عدم الكلام هو مصدر عذابنا الأول. وذلك من خلال منظومة من اللوحات البانورامية التي تختزن مشاهد معتمة لما يعتبره جناية على الثورة كان نائماً حين قامت الثورة/ لم يغادر سريره/ رغم أنه سمع الهتافات الهادرة/ من شباك غرفته/ نام بعمق/ كان وحيداً في البيت/ في الحي كله/ لا ضجيج بائعين/ لا صراخ أطفال/ ولا نباح كلاب/ وحيد/ وحر/ بينما الثوار هناك/ يشيعون جنازة الحرية. حيث تفصح تلك المشهدية الحزينة عن إدانة للجموع الغاضبة التي تقتل بعضها بقابيلية شرسة فيما يمارس هو نبالة التناوم ليسجل موقفه من خطأ لا يُغتفر. بنص ينسج نفسه بنفسه. من خلال التقاط العنصر الحي من كل مشهد يرتطم به بصره.

مشاركة :