يسعى الشاعر المصري عماد أبو صالح في ديوانه «كان نائماً حين قامت الثورة» (طبعة خاصة) إلى كسر البديهيات والمسلّمات، وهو ما يخلق صدمة فكرية لقارئه توصله إلى أن لا شيء سلبي تماماً في الحياة أو العكس. يحاول أبو صالح إقناع قارئه بذلك من طريق المنطق والحجج والبراهين التي تؤيد فكرته، في مدحه للخطأ، أو كرهه للأشجار، أو مديح الفراغ والعدم والظلام، أو ذم الثورة والحب والحرية والشعر. وذلك ليس غريباً عن التراث العربي، الذي يوجد به شعر في ذم الشجاعة والجود والكرم والكثير من الصفات المحمودة؛ ولكن ذلك الشعر كان يورد من قبيل الطرفة والفكاهة، بينما أبو صالح يسعى في قصائده إلى الانتصار للقيم التي لولاها ما عرف النقيض منها. ويحيلنا عنوان الديوان إلى قصيدة «ذم الثورة» التي تتكون من 10 مشاهد كل مشهد يعبر عن زاوية سلبية أو مختلفة من زوايا الثورة، حيث المشهد الأول الذي يحكي عن ذلك النائم الذي لم يغادر سريره عندما قامت الثورة، ولم يكن لديه عذر لغياب عنها، بعلة أو عدم معرفة أخبارها، فقد سمع هتافات الثوار الهادرة من شباك غرفته، لدرجة أنه الوحيد في الحي كله الذي لم يخرج. نام بعمق، فكان بذلك حراً؛ وصل إلى أسمى درجات الحرية، ألا وهي الحرية الفردية التي تخفت فيها الدلالات الميتافيزيقية، وتفسح المجال للدلالات الاجتماعية. هنا يتبدى سعي الفرد داخل محيط اجتماعي معين إلى تحقيق حريته؛ ومظهرها حرية الفعل أو السلوك، وهو ما يتجلى مع ذلك النائم الذي يصف نفسه بالوحيد والحر بينما الثوار يشيعون جنازة الحرية. وربما يكون المعني بتلك الحرية المشيعة هو الحرية الإنسانية، وهي الخاصة بعلاقة الإنسان بالقوى التي شكَّلت العالم، لا سيما تلك التي تفرض إرادتها وتحقق مشيئتها دائماً. فالنائم كان يبحث عن حريته الفردية ووجدها، بينما الثوار كانوا يبحثون عن حريتهم الإنسانية ضد القياصرة الديكتاتوريين، فكانت النتيجة أن فقدوا حريتهم الفردية والإنسانية وعليهم «ألا يحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد». فكانت نتيجة ثورتهم على ديكتاتور أن جاءهم من هو أشد ديكتاتورية منه كي يقمعهم. ويرصد أبو صالح في مشهد «المناضل»، صورة متناقضة له وللنفس البشرية التي لا تعرف ماذا تريد، فحينما حرق عربة الشرطة مع الجموع الغاضبة، لم يفرح على رغم أن تلك العربة هي نفسها التي ركبها وهو شاب مقيد اليدين، وعلى العكس فوجئ بحزن على أغلى ذكرياته التي تأكلها النار. ويكشف في اللوحة الرابعة موقفاً إنسانياً عن ذلك المتشرد الذي أعطى الثوار رغيفه واستضافهم في بيته الشارع، ثم رحلوا فجأة تاركين له ألم وحدة لم يجربها من قبل. ويصل في المشهد الأخير إلى الحقيقة التي أرساها في المشهد الأول من أن الحرية لا تأتي بالصخب، فالحرية عصفور يرتعب من الجموع والأصوات العالية، فيكفي أن يصل الإنسان إلى حريته الفردية، فيصل المجتمع كله بذلك إلى حريته المنشودة، من دون ثورة وسقوط شهداء. يبدأ أبو صالح بخمسة مشاهد تبين لماذا يجب أن يمتدح الخطأ. يعود إلى إغواء حواء لآدم، منكراً أن يكون الخطيئة الأولى، ويعتبره البداية الصحيحة، لأن يفارق آدم طبيعة تقترب من الملائكية، ويضيف إلى حياته الصراع الذي هو إكسير الحياة، والسبيل إلى جنة أرضية. ويرفض عماد أبو صالح في الحجة الثانية اعتبار الأخطاء أحجاراً تعرقلنا، بل هي تعطلنا لنمشي ببطء ونتأمل أكثر حتى لا نكون مثل ثور يندفع إلى الهاوية، أو حتى لا نضيع كماء الشلال في المحيط. وينفي في الحجة الثالثة أن تكون البراءة لصيقة بمن لا يخطئ، بل من يخطئ أكثر يصبح بريئاً أكثر، فمن لا يخطئ أبيض ونظيف معقم، لا بقعة تدل على أنه كان يحيا على الأرض، مثل القطار يصل محطته التي حددها الآخرون سلفاً، وهو هنا يتناص مع الحديث النبوي الشريف: «لو أنكم لا تخطئون لأتى الله بقوم يخطئون فيغفر لهم». ويصل في المشهد الرابع إلى حقيقة مفادها أن الوجود يعني الخطأ، فالوردة تخرج في الربيع في أحلى فساتينها وهي تعلم أن ذلك هو موسم ذبحها. ويحيي في البرهان الأخير؛ يهوذا، إمام الخاطئين، فلولاه ما كان مجد المسيح، وهنا يتناص مع قصيدتي أمل دنقل «كلمات اسبكرتوس الأخيرة» و «مقابلة خاصة مع ابن نوح»، لجهة النظرة المغايرة لرفض الشيطان، وعدم انسياق ابن نوح لرغبة والده، أو عن الوردة التي تحمل اسم قاتلها في بطاقة. وفي قصيدته الثانية في الديوان «ذم الأشجار»؛ يسير عماد أبو صالح على الاستراتيجية نفسها سارداً الأسباب التي تدعوه إلى كره الأشجار. هو بدأها بأسباب شخصية، فقد أسقطته شجرةٌ أرضاً عندما كان طفلاً يحاول قطف ثمار التوت من أعاليها، ولأنها تذل يد أبيه حتى تنبت، ولأنه رأى أمه تدلل الشجرة أكثر منه. ثم ينتقل أبو صالح إلى أسباب خاصة بطبيعة الشجرة نفسها تدعوه لكرهها، فالشجرة لديه مقابل للشجار؛ «لا تفلح الطيور التي تعزف لها كل صباح في مصالحة أغصانها على نفسها فكل شجرة معركة خضراء ولكن هذه المعركة الخضراء حين تيبس تكون أداة لسفك الدماء، فكل عصا غصن شجرة وطاولة التعذيب غصن شجرة وكل فرع في الشجرة جاهز لحبل فـكل شجرة إغراء بحبل مشنقة». ثم يبدأ أبو صالح في تفنيد أدلة المحبين للشجر وتبيان خطأها. فالشجرة لا تمنحنا الظل في الشارع أو الحديقة بل تستدرجنا إلى العراء، كما تم استدراجها من أمها الغابة وبذلك يتضح الدور الانتقامي للشجر. ويقدم أبو صالح بديلاً لمن يحبون الشجر، فإذا كان ضرورياً اللون الأخضر فالعشب هو الخيار الأفضل، بسبب إنكاره لذاته ولا يخيفنا بقامته الكبيرة، ولا يقتل أحداً إن أراد السقوط على الأرض. ويطالب أبو صالح في نهاية القصيدة الذين يحبون الشجر أن يتذكروا أن الشجرة هي سبب شقائنا، منذ أن أغوت آدم بتفاحتها. ولعل عماد أبو صالح يتشابه في الإطار العام في قصيدته في مدح الظلام مع المتنبي الذي مدح الليل لأسباب خاصة فهو منقذه من أعدائه وقت هروبه، ويشفع له عن زيارته لحبيباته ليلاً بينما الصبح يغري به. كما أن الديوان كله دعوة إلى التفكير، ومحاولة للكشف عن الجانب الإيجابي في كل ما هو شائع أنه سلبي أو العكس.
مشاركة :