تلك هي اللافتة التي أراد تعليقها على واجهة المشهد الدموي. من خلال لقطة بانورامية شاملة، سرعان ما تتوغل في التفاصيل لتعميق الوجع كان مكوماً في ركن/ قدماه حافيتان/ وملابسه ممزقة/ والدم يسيل من فمه/ عجوز/ نحيل/ لا يقوى/، أصلاً، / على الذهاب للحمام/ جرفته الثورة إلى هنا/ ليصبح ثائراً رغم أنفه. وما أن ينتهي من تأمُّل عجوز تم تثويره بالصدفة، حتى ينتقل بعدسته إلى مشهد آخر يحتله مناضل وبذات الخطابية التقريرية يسرد حيثيات الصورة وما وراءها من خفايا وقف عارياً أمام عربة شرطة/ أحرقتها الجموع الغاضبة/ نفس العربة/ التي ركبها/، مقيد اليدين، / حين كان شاباً/ انتظر هذه اللحظة كثيراً/ لكن حين جاءت/ لم يشعر بأي فرح/ على العكس/ فوجئ بحزن/ ينساب/ ببطء/ في كيانه كله/ وقاوم رغبة حقيقية/ في إطفاء ألسنة النار/ التي تأكل أغلى ذكرياته. هكذا صار يشعرن المادة الخام للحدث، ليقوّض فجاجة الصورة التلفزيونية بكل احتقاناتها الجماهيرية والخبرية بعد اهتزاز اليقين مقابل التكوين النصي الذي يريد إقامته كمروية شخصية. وكأن منسوب الهابيلية فيه آخذ بالارتفاع لهول ما يرى. الأمر الذي يفسر انفتاح نصه على لقطة إنسانية تحمل الكثير من مفارقات الحدث الثوري باستعارات هادئة، ومجازات بسيطة، وإيقاعات أقرب إلى السكونية، وسخرية مبطنة. وذلك من خلال سرد سيرة متشرد يتحول على إيقاع الثورة إلى رقم صعب في معادلة الإنسانية منذ طفولته/ وهو يعيش مشرداً هنا/ لا أهل/ لا عمل/ لا أمل/ تقافز من الفرح/ حين امتلأ الميدان بالثوار/ تنازل لهم عن غطائه الممزق/ ونصف سيجارة/ كان يشبكها خلف أذنه/ شعر أنه صاحب بيت حقيقي/ يجب أن يحتفي بالضيوف/ حين رحلوا فجأة أحس بالألم/ بوحدة لم يجربها في حياته/ أطعمهم رغيفه/ وسرقوا منه/ نعمة العراء. هذا هو منطق النائم الذي يرى كل تلك التفاصيل اليومية الدقيقة ويخضعها لتحليل شعري، أشبه ما يكون بالصراع الدرامي المكشوف الذي يحد من فاعلية الخيال. فهو يلاحظ حتى الباعة الجائلين الذين داستهم الأقدام أو دفعتهم الأكتاف المتزاحمة خارج مدار أرزاقهم. يستدعي لقطة ل متسول كشاهد على هبائية الثورة، وكتأكيد على حس اللامبالاة الذي يحاول إيهام ذاته به أنا مجرد متسول/ لكنني/ خدمت الثورة/ أكثر من الثوار أنفسهم/ كيف؟/ خدمتها بعدم مشاركتي/ بقيت جالساً/، على هذا الرصيف، / أمد يدي للعابرين/ مددتها بحماس/ بإخلاص وخسّة/ بكل خبرتي في الوضاعة/ أنا لا أحلم بحياة أفضل/ ولا أهجر مهنتي/ يروح دكتاتور/ ويجيء دكتاتور/ وأنا ثابت في مكاني/ سلالتي طويلة/ لي أجداد في الماضي/ وأحفاد في المستقبل/ أنا الباقي/ أنا الخالد/ أنا الواقع في قاع الثورات/ أنا حارس الأمل/ في الثورة القادمة. وبنظرة فارطة في الواقعية حد التشاؤم يرسم بورترية لما سيكون عليه بطل من أبطال الثورة. بدون مونتاج أو توليف. ففي كل ثائر ينام دكتاتور كما يوحي التشريح اللفظي للنص يا إلهي/ كم هو رائع/ هذا الشاب هناك!/ يتقدم الصفوف/ ويفتح صدره للرصاص/ يعالج الجرحى/ ويتنازل عن طعامه القليل للجوعى/ أنا معجب به/ إلى كل طفل/ يحلم بأن يكون بطلا:/ تعلّم منه/ لتثور ضده/، بنفس طريقته، / حين يصبح ديكتاتور المستقبل. وهو الأمر الذي يدفعه إلى مديح الظلام وذم الحرية و مديح العدم وذم الحب بمجازية تستمد طاقتها من صدمة الواقع. ومستدعياً سلالة من الشعراء كافافيس، لوركا، شيمبورسكا، ماياكوفسكي، كملاذ شعوري. كمن تعرض لبرد فضائي، حسب تعبير شيموس هيني. يعيد صياغة خطابه الشعري الثقة بالشعر بنوازعه الإنسانية. ليؤكد - كعادته - على وفاقه الحميم مع الشعراء. ليحاورهم بما يشبه العتاب، وبنبرة خافتة، في معنى الموت والديكتاتورية والعصيان. وكأنه بتلك البداهة والعفوية، واللغة النثرية المحكية، يستمد دعمه الحسّي والثقافي من مكان ما وراء الحدث. لتوطين المعنى اللامباشر في النص. وليعود في نهاية المطاف إلى مكمن الصراع الدرامي. أي إلى التسليم بوجود ذلك المزيج القابيلي الهابيلي في النفس البشرية التي لا فكاك من تناقضاتها واستعدادها الدائم لأن تكون قاتلة ومقتولة أيضاً. فيما يتغافل هو عن ذلك كله بالتناوم النبيل في سرير الشعر.
مشاركة :