في خطوة جديدة تتعارض مع كل حقائق التاريخ، وأبسط مبادئ القانون والأعراف الدولية؛ صرح وزير الخارجية الأمريكي، «مايك بومبيو» يوم 18/11؛ بأن المستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 «ليست مخالفة للقانون الدولي، وأن بناءها شرعي». في خطوة أشاد بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، «بنيامين نيتنياهو»، ووصفها بـأنها «تعكس حقيقة تاريخية»، موجها الشكر إلى ترامب وإدارته، مؤكدا أن إسرائيل ستواصل رفض كل الحجج المتعلقة بعدم شرعية هذه المستوطنات. وبرر «بومبيو» موقفه بأن بناء مستوطنات مدنية لا يتعارض مع القانون الدولي ولا مع قضية السلام، وزعم أنه لا يوجد حلُّ قضائي للصراع، وأن الجدال حول من المحق ومن المخطئ بالنسبة إلى القانون الدولي لا يجلب السلام؛ مع أن الحل في القانون الدولي أي في قرارات الأمم المتحدة وكذلك في الاتفاقيات الموقعة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل منذ عام 1993 بضمان الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة وروسيا، وهو ما يعرف باتفاق أوسلو وملحقاته. وفي ظاهرة جديرة بالملاحظة وقَّع يوم 23/11/2019. «107» أعضاء بمجلس النواب الأمريكي، عريضة طالبوا خلالها وزير الخارجية بالتراجع عن تصريحاته، قائلين: إن «الإعلان يخالف ما جرت عليه السياسة الأمريكية على مدار عقود، والتي ارتكزت على الرأي القانوني الصادر عن وزارة الخارجية عام 1978. وأن هذا القرار وما سبقه من قرارات بخصوص القضية الفلسطينية، مسَّ بمصداقية الولايات المتحدة كوسيط نزيه بين إسرائيل والفلسطينيين». وسعى وزير الخارجية من هذا التصريح إلى نفي المكانة القانونية للأراضي المحتلة على الرغم من أنه لم يقل صراحة إن لإسرائيل حقوقا سيادية فيها، لكنه لم يتبن أيضا الموقف المناهض الذي يقول إنه ليس لإسرائيل أي حق، متجاهلا أن هناك أكثر من 5.5 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، التي ينظر إليها معظم دول العالم وحتى قادة إسرائيل السابقين كأرض محتلة من قبل إسرائيل وجزء من دولة فلسطين في المستقبل. وعمليا، يلغي هذا التصريح أي بيانات أصدرتها وزارة الخارجية الأمريكية في عهد كارتر وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن وأوباما، ترفض بناء المستوطنات، ومنها الرأي القانوني الصادر عنها عام 1978. والذي يقضي بأن إقامة المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. بما في ذلك القدس الشرقية لا يتوافق مع القانون الدولي. ولم تكتف إدارة ترامب بذلك فقد أضاف الوزير قولا سياسيا أيضا، لا يقل أهمية عن القول القانوني، بما يلغي 40 عامًا من السياسة الأمريكية، التي قامت على أن النشاطات الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية غير شرعية؛ متخذة موقفًا جديدًا، وجهت به ضربة إلى التوافق الدولي حول النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، وما سيقوض دور واشنطن على الصعيد العالمي كممثل دبلوماسي وعسكري وسياسي في المجتمع الدولي. وقوبل التصريح بردود فعل فلسطينية، وعربية ودولية، رافضة ومستنكرة؛ لافتقاره إلى الدلالة السياسية، والتاريخية، والقانونية، والاستراتيجية، والأخلاقية، إذ وصفته السلطة الوطنية الفلسطينية، بأنه «خطوة باطلة ولاغية»، وحمَّلت الإدارة الأمريكية المسؤولية كاملة عن تداعياته الخطيرة، وأنها غير مخولة ولا مؤهلة لإلغاء الاتفاقات وقرارات الشرعية الدولية، ولا يحق لها أن تعطي أي شرعية للاستيطان الاستعماري الإسرائيلي». ومن جانبها، حذرت الدول العربية من هذا التغيير الصارخ في الموقف الأمريكي وتداعياته على عملية السلام، ومنها، مصر والسعودية والبحرين والأردن. وخلال الدورة غير العادية لوزراء الخارجية العرب دعت جامعة الدول العربية إلى بلورة موقف عربي جماعي ومنسق للتصدي للخطوة الأمريكية واتخاذ المواقف والخطوات التي أصبحت تتطلب تجاوز الإدانة إلى ضرورة اتخاذ إجراءات عملية، وممارسة الضغوط السياسية والدبلوماسية والإعلامية والقانونية على الساحة الدولية للانتصار للحق الفلسطيني. فيما أدانته منظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، والعديد من منظمات المجتمع المدني العربية والتي أكدت أن الموقف الأمريكي من المستوطنات يمثل «انتهاكًا للقانون الدولي». وعارض مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة هذه التصريحات، مؤكدًا موقفه الثابت أن المستوطنات تمثل انتهاكًا للقانون الدولي، وأن التغير في الموقف الأمريكي لا يعدل القانون الدولي القائم ولا تفسير محكمة العدل الدولية، كما أدانه أعضاء مجلس الأمن يوم 22/11/2019 –باستثناء واشنطن بالطبع– وأوضحوا أن المستوطنات تخالف القانون الدولي وتشكل عقبة أمام السلام. وبدورها، أدانت «فيديريكا موجيريني»، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، هذه التصريحات، وأكدت أن الاتحاد الأوروبي يعتبر أن كل الاستيطان غير شرعي، استنادا إلى اتفاقية «جينيف الرابعة»، وخاصة المادة (49) منها، والتي قالت عنها منظمة العفو الدولية إنها تمنع سلطة الاحتلال من نقل إسرائيليين إلى الأراضي المحتلة بما فيها القدس الشرقية، وأن بناء وصيانة المستوطنات يرقى إلى جرائم الحرب». ونشرت كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا وبلجيكا، إعلانا خاصًا بها جاء فيه أن «المستوطنات في المناطق الفلسطينية المحتلة، وشرقي القدس، غير قانونية بحسب القانون الدولي، وتضر باحتمالية حل الدولتين». في حين قالت روسيا إن: «إعلان بومبيو سيؤدي إلى زيادة التوتر في المنطقة ويضر بفرص التسوية». وفي واقع الأمر، لم يكن هذا التصريح مفاجأة، أو وليد اللحظة، أو مصادفة، بل كان مخططا له بعناية من قبل الإدارة الأمريكية، إذ يعد استكمالا لعدد من الهدايا التي قدمها «ترامب»، منذ وصوله إلى البيت الأبيض عام 2016. من خلال سلسلة من الخطوات والقرارات التي يناهض فيها الحقوق الفلسطينية، ويصطف فيها خلف الباطل، من أهمها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ووقف الدعم لوكالة تشغيل وغوث اللاجئين «الأونروا»، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، واعترف الرئيس الأمريكي، رسميا بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وغيرها من القرارات، ليجيء التصريح الجديد ليدق المسمار الأخير في نعش التسوية السياسية، التي تتعمد الإدارة الأمريكية الحالية حرفها عن مسارها، ويكون جزءا من خطوات أعادت تشكيل الدور الأمريكي في المنطقة لصالح إسرائيل؛ وتنفيذًا لسياسة ثابتة وواضحة ومحددة لخدمة التيارات الإسرائيلية المتشددة وجماعات الضغط الصهيونية والجماعات المسيحية المتصهينة، كما أن الدلائل تشير إلى أنه سيتم الإعلان عن ضم الضفة الغربية مُستقبلا. يقول «بيتر بومونت» في صحيفة «الجارديان»: «ما كان غير معتاد في الماضي أصبح الآن ممكنًا بدعم الإدارة الأمريكية الراهنة». وتؤكد «زها حسن» من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، أنه «حتى الآن أثبت ترامب وإدارته أنهما متواطئان مع الخطط الإسرائيلية المعنية بالسيطرة على الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية المحتلة». ويعلق «أندرو بونكومب»، في صحيفة «الإندبندنت»، بأن «بناء المستوطنات اليهودية على الأراضي التي عاش عليها الفلسطينيون عبر التاريخ قد تم التنديد به من قبل المجتمع الدولي مرارًا وتكرارًا، وهو الأمر الذي تم اتخاذه من قبل عدة قرارات صادرة عن الأمم المتحدة، وهذه حقيقة لم تردع واشنطن حتى عن مغبة الاعتراف بتلك المستوطنات». وحتى وقت قريب من عام 2016. كانت تصدر القرارات الدولية المنددة بالسياسة الاستيطانية الإسرائيلية؛ ومنها قرار مجلس الأمن رقم «2334»، الذي أدان إقامة المستوطنات في الأراضي المحتلة منذ عام 1967. بما في ذلك القدس الشرقية واعتبرها «تفتقد للشرعية القانونية، وتشكل انتهاكًا صارخًا بموجب القانون الدولي، وعقبة رئيسية أمام حل الدولتين». وغالبا ما كانت سياسة إدارة ترامب تجاه الفلسطينيين مدفوعة بالأصوات المؤيدة لإسرائيل، بقيادة كبير مستشاري الرئيس الأمريكي، «جاريد كوشنر»، والمبعوث الأمريكي الخاص السابق للسلام في الشرق الأوسط، «جيسون جرينبلات»، ووزير الخارجية، «مايك بومبيو»، وهذا الدعم اللامحدود يراد منه تغيير المعادلات الجيوسياسية وخلق حقائق على الأرض لصالح إسرائيل، مثل عزل الفلسطينيين في جيوب الضفة الغربية، وتحويل قطاع غزة إلى سجن مفتوح بطريقة لا يُمكن معها قيام دولة فلسطينية». وإذا كان التصريح من الناحية العملية لا يمثل أهمية باعتباره مجرد إجراء رمزي يناقض الشرعية الدولية، غير أن دلالاته وتداعياته تعد أكثر خطرًا وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي: أولا: يعبر عن استعداد واشنطن لتغيير التقاليد الدبلوماسية المتعلقة بالشرق الأوسط، والتي لم تتغير منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، وتشكك في موثوقيتها لعقد تسويات سلام في المستقبل، باعتبارها وسيطًا غير محايد، وتقوض الثقة في إمكانية التزامها بالقانون الدولي. ووفقًا لما قاله «آلان غريش» من «مركز كارنيجي»، فأمريكا «أكدت بقراراتها المتعاقبة الدعم غير المشروط لإسرائيل، بل وأصبحت طرفًا مباشرًا يؤجج الصراع الإسرائيلي العربي». ثانيا: يؤثر على إمكانية تنفيذ الخطة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط، المعروفة إعلاميا بـ«صفقة القرن»، ووفقًا لـ«دينيس روس» المستشار «بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، فإن ذلك يثير الشكوك حول لجوء أمريكا إلى التلاعب بالفلسطينيين لخدمة إسرائيل في فترات لاحقة، وبالتالي فلا ثقة في عدالة «صفقة القرن». ثالثا: يثبت حقيقة أن العالم العربي الذي اهتز حين أشعل أحد الصهاينة النيران في المسجد الأقصى عام 1969. وعقد مؤتمرا للقمة الإسلامية في المغرب، هو غير العالم العربي في عام 2019. وذلك بعد أن تراجع وزنه بسبب غياب قيادته وانفراط عقده وتعدد محاوره وتباين سياساته، وانشغال أنظمته في مشاكل داخلية، بما أضحت معه القضية الفلسطينية ليست على رأس أولوياته. رابعًا- هذه الخطوة ستكون لها تداعيات وعواقب قد تدفع بإسرائيل نحو زاوية خطيرة، فهي تجعل من احتمالات السلام بعيدة وتزيد من جرأة دعاة ضم الضفة الغربية التي هي 98% من أراضيها مملوكة للفلسطينيين وهذا يشكل كابوسا أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لإسرائيل ويقضي على فرص قيام دولتين بل دولة واحدة ثنائية القومية وفي هذه الحالة ستواجه إسرائيل خيارات صعبة؛ منها منح الفلسطينيين الذين سيتجاوز أو يتساوى عددهم مع أصوات اليهود حقوقا متساوية، أو تحويلهم إلى سكان من الدرجة الثانية وهو ما يحول إسرائيل إلى بلد بقوانين مختلفة أي دولة تمييز عنصري «أبارتهايد». وبحسب «روبر مالي»، مستشار الشرق الأوسط السابق لباراك أوباما، فإن هذا التصريح يمثل «خطوة مشؤومة في وقت تنمو فيه الأصوات داخل إسرائيل لضم أراضي الضفة الغربية». خامسا: هذه الأسس الجديدة في نهايتها -إذا لم يتم مواجهتها- ستؤدي إلى تصفية موروث القضية الفلسطينية وأسسها القانونية والدولية، كما من شأنها أن تدفع المستوطنين الإسرائيليين إلى ممارسة المزيد من الجرائم والعنف ضد الفلسطينيين، وهو ما سيخلق مشكلات تصاعدية، وعواقب عديدة. على العموم، تصريح وزير الخارجية الأمريكي، «مايك بومبيو»، يعكس رغبة أمريكية في خلط أوراق الصراع في الشرق الأوسط، ويطيح بالموقف الأمريكي التقليدي الذي لم يعترف يوما بشرعية المستوطنات، كما أنه يفتح الباب واسعا في كل العالم أمام شريعة الغاب وأمام فوضى دولية لكي يحتل كل بلد يشعر بالقوة وبالطمع أرض الغير، وخاصة في ظل حالة الضعف والتشظي السياسي التي يمر بها عالمنا العربي.
مشاركة :