لا يبدو أن العرب وبقية شعوب العالم قد اتعضوا من تجارب القرون الماضية، فالأحداث والنزاعات والحروب، تدمر كل ما ينجزه الإنسان وما يبنيه طوال عقود. وبما أن القرن العشرين، قد شهد أكبر نكبة وهي ضياع فلسطين، فإن العرب ينتظرون أين ستستقر نكبتهم الجديدة، لكن المؤكد هو أن لكل قرن نكبته بالنسبة للشعوب العربية. في الرابع عشر من مايو/ أيار سنة 1948، أعلنت العصابات الصهيونية إقامة دولتها على أرض فلسطين المحتلة بعد لعبة دولية قذرة قادتها بريطانيا وسلمت بمقتضاها الأرض العربية إلى شتات اليهود الذين تم تجميعهم على أسس عنصرية ودينية مقيتة، وفعلوا ما فعلوا بعد ذلك، من جرائم ضد الإنسانية في حق شعب أعزل. لكنّ هل لنا أن نسأل ما الذي فعله العرب وهم يحيون الذكرى السابعة والستين لنكبة فلسطين؟ أليست النكبة تلد نكبات جديدة فيكون لكل قرن نكبته؟ المشهد العربي ومنذ العام 2011، يتغير نحو الأسوأ وبمشهد درامي يفوق ما حدث زمن النكبة. و المؤكد أن ما يسمى الربيع العربي سيظل مشبوهاً مادامت بوصلته لا تشير إلى القدس وإلى فلسطين عموماً. والمؤكد أن القضية التي مرت بمراحل عديدة من المقاومة إلى متاهات مفاوضات السلام، تدخل الآن مرحلة هي الأخطر ألا وهي مرحلة التصفية النهائية. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، يتعلق بما إذا كان هناك وعي عربي عميق بأن القضية الفلسطينية هي المؤثّر الرئيسي في كل ما يحدث الآن من زلازل دمرت ومازالت تدمّر البيت العربي المتداعي للسقوط؟ هل هناك وعي عميق أنّ النكبة التي مر عليها سبع وستون سنة، ستلد نكبات أخرى؟ ألسنا نعيش الآن قمة الملهاة العربية، ونحن نحي الذكرى السابعة و الستين لضياع فلسطين؟ ألسنا نعيش زمن النكسة في ذكرى النكبة؟ إن مشاعر الحزن والأسى التي تصيب المواطن العربي بسبب مشاهد الاحتراب الداخلي ومشاهد الذبح، ومشاهد التخريب التي تصيب أكثر من بلد عربي وفي آن واحد يجعلنا نقر بأن روح النكسة حاضرة في ذكرى النكبة. إن حجم الخراب الذي يحصل الآن وحجم المشردين و الجوعى والقتلى والجرحى يفوق عشرات المرات ما حدث في زمن النكبة. لا يتعلق الأمر هنا بما حدث في ذلك الوقت، فما حدث جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. لكن فظاعة ما نعيشه اليوم يجعل بالفعل القضية الفلسطينية تكاد تذوب وسط ما يحدث من زلازل تهز المنطقة. في ذكرى النكبة السابعة والستين، يمكن الخروج بجملة من الاستنتاجات حول القضية الفلسطينية. الاستنتاج الأول هو أن الدبلوماسية العربية لم تستطع أن تنتج حلولاً جذرية خلال نحو سبعة عقود كاملة من بداية الأزمة. ولا يبدو في الزمن الراهن، أن هناك حلولاً قريبة للفلسطينيين. وعليه فالنخب السياسية العربية فشلت أيّما فشل في إدارة الصراع مع عدو أخطبوطي، يمتلك من عناصر القوة ومن الدعم الخارجي بل ومن التأثير في القرار السياسي العالمي، ما يجعل العرب في حاجة إلى جهود عبقرية لتغيير موازين القرار الدولي. الاستنتاج الثاني، يتمثل في أن عدواً بحجم الحركة الصهيونية العالمية، وبحجم تنفّذه الاقتصادي والسياسي والإعلامي، يحتاج إلى ترسانة أسلحة مضادة تفوقه حجماً. في واقع الأمر لا تنقص العرب كل هذه الأسلحة، فهم بإمكانهم أن يجعلوا كل العالم يركع تحت أقدامهم، ولكن ذلك يتطلب سياسات مغايرة لكل تلك السياسات التي تم انتهاجها طوال العقود الماضية. المؤشرات الحالية، التي تغيب فيها العقلانية الوطنية وتنعدم في ظلها العقلانية القومية سيصعب كثيراً الجزم بأن العرب يمكن أن يفعلوا شيئاً ذا نفع في الوقت الحالي، للشعب الذي وقع تهجيره أو للشعب الذي بقي صامداً في أرضه ويأبى الاقتلاع. الاستنتاج الثالث، هو أن الواقع العربي يشهد عدة نكسات وعدة نكبات، وبات من الصعب أن نهتم بالنكسة الأم أو بالنكبة الأم، في وقت تنتشر فراخها من النكبات في جسد الأمة الواهن وتنهش منه ما تبقى من أمل الحياة. وهنا نتساءل عما إذا كان ما يسمى الربيع العربي، هو حقاً يراد منه الخير لهذه الشعوب والخير للشعب الفلسطيني بدرجة أهم؟ الحقيقة أنه منذ أن بدأت الشعوب العربية تنتفض ضد أنظمتها السابقة، وكل المؤيدين لتلك الثورات يحاولون توجيه بوصلة الربيع العربي بعيداً عن القدس. وفعلاً فقد نجحوا في أن تنكفئ كل ثورة على نفسها، ولا تتجاوز حدودها المرسومة منذ معاهدة سايكس- بيكو (1916) والتي عقبها مباشرة وعد بلفور في العام (2017). اليوم نرى الحرائق تلتهم كل الأرض السورية، ولكن هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، لم تلحقها سوى بعض رصاصات طائشة لم تتأخر إسرائيل في الرد عليها بكل قوة. وفي سيناء يواجه الجيش المصري حرب استنزاف لقدراته، لم تطلق رصاصة واحدة ممن يعتبرون أنفسهم جند الله. ولا توجد في ثقافة من يسمون أنفسهم دولة الخلافة، أدبيات إلى فلسطين أو إلى ثالث الحرمين الشريفين المغتصب من العصابات الصهيونية. في الذكرى السابعة والستين لضياع فلسطين نتساءل وبكل حرقة عما بقي من قضية العرب الأولى. فدبلوماسياً لم يعد هذا الأمر مطروحاً على جداول أعمال الهيئات الدولية إلا في إطار ما تفرضه المناسبة، وذلك بعد أن تمت دحرجة القضية من معجم المقاومة إلى معجم السلام الاستراتيجي الذي لا بديل عنه. وعسكرياً سقطت البندقية الفلسطينية والعربية بعد أن تم تدويخ العرب في متاهات أوسلو، التي خرجوا منها بشبه دولة وشبه سلطة. البندقية الفلسطينية اليوم تائهة، ولا تجد السند حتى من أبناء الوطن الواحد الذين كانوا بالأمس مقاومين. لقد آمن العرب بالسلام و اتخذوه نهجاً منذ العام 1993، وهم لا يريدون الحروب وشرورها وقبلوا با لتفريط في أراضيهم نتيجة إخفاقات دبلوماسية، لكن غيرهم لم يؤمن بالسلام، ولم يكفّ شروره عنهم. kamelbelhedi@yahoo.fr
مشاركة :