روى أبو حيان التوحيدي عدة تعريفات للبلاغة عن بعض رجال الأدب والعلم في كتابه "الذخائر والبصائر" قائلا: سُئل ابن حرب عن البلاغة فقال: البلاغة أن تجعل بينك وبين الإكثار مشورة الاختصار؛ وهذا يحتاج إلى تفسير.وقال الرومي: البلاغة هي الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة.وقال الأعرابي: البلاغة وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.وقال الفارسي: البلاغة معرفة الفصل من الوصل.وقال إبراهيم الإمام: يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.وعلق "التوحيدي" على مثل تلك التعريفات لمفهوم البلاغة قائلا: وهذا الحكم من إبراهيم مبتور، لأن الإفهام قد يقع من الناطق ولا يكون بما أفهم بليغًا، والفهم قد يقع للسامع ممن ليس ببليغ ولا يكون بليغًا، وليس اشتراكهما في التفاهم بلاغة.البلاغة أن يصيب الناطق بالطبع الجيد، أو الصناعة اﻟﻤﺠتلبة، أو ﺑﻬما، وإن ساء فهم السامع لقصور طباعه، أو بعده عن أسباب الفضيلة، ومن ذا الذي هجا البليغ لأن السامع لم يفهم، أو هجا السامع لأن الناطق لم يفهم؟ وإنما البليغ الذي يبلغ القصد بأقرب طرق الإفهام مع حسن الغرض، وليس أقرب طرق الإفهام تقليل الحروف واختصار المراد؛ قد يكون هذا، ولكن أقرب الطرق في الإفهام أن تكون الغاية مثالا للعقل، ثم يكون المعنى مسوقًا إليها، واللفظ منسوقًا عليها، فهم السامع أو قصر. ثم ليس هذا المعنى مقصورًا على العربية، بل هو شائع في النفوس، مستمد من العقول، معروف باللغات، لكن العربية عندنا أحسن الألفاظ مخارجا، وأوسعها مناهج، وأعلقها بالقلب، وأخفها على اللسان وأوصلها إلى الآذان، وكل هذه المحاسن تابعة للشريعة التي جعلها الله تعالى تمام الشرائع، ومضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ختم الله عز وجل به الأنبياء والرسل؛ جعلنا الله عز وجل يوم الفزع الأكبر في زمرته، كما أخرجنا في زمرة أمته، ورزقنا شفاعته، كما ألهمنا طاعته، بمنه وجوده".ويُعد كتاب "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي جهد إطلاع دؤوب وقراءة مستمرة لمصادر رئيسية في باب الأدب والنوادر والتاريخ، أشار إليها "التوحيدي" في مقدمة كتابه، حيث شملت القائمة مؤلفات عثمان بن أبي بحر الجاحظ، و"النوادر" لأبي عبدالله محمد بن زياد الأعرابي و"الكامل" لأبي العباس محمد بن يزيد الثمالي المعروف بالمبرد، و"عيون الأخبار" لابن قتيبة الدينوري، و"مجالس ثعلب" و"المنظوم والمنثور" لابن أبي طاهر و"الأوراق" للصولي و"الوزراء" لابن عبدوس و"الحيوانات" لقدامة، إلى جانب القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
مشاركة :