المسرح العربي في مواجهة التطرّف والإرهاب.. فعل تنويري مستمر

  • 12/2/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أسهم فن المسرح، مع الفنون الأخرى، في مواجهة ظواهر مروعة وخطيرة، لا يخلو منها الكثير من المجتمعات البشرية، مثل التطرف والإرهاب والعنف والكراهية وازدراء الآخر، ومآلاتها البشعة التي تشكّل صورا رمزية للتوحّش. وفي سياق دوره التنويري سعى المسرح أيضا إلى إشاعة روح المحبة والتسامح والتعايش والحوار والتقريب بين الثقافات، واحترام التنوع والتعدد. هكذا كان الفن الرابع منذ ولادته وسيرورته في الحضارات الغربية والشرقية، فنا وفضاء ينبذ كل شاذ، ويفتح آفاقا رحبة لا تضيق بأحد، وينتصر للقيم الإنسانية النبيلة، ويدعو إلى تطهير السلوك البشري، وتخليصه من تراكماته النفسية والذهنية ومن الشوائب التي تعلق بالعقل والروح. المسرح العربي تنبّه إلى خطورة هذه الظواهر منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، فكانت مسرحية سعدالله ونوس “سهرة مع أبي خليل القباني” (1973) من أبرز النماذج المسرحية التي قدّمت معالجة درامية ناضجة لظاهرتي الفكر الظلامي/ التكفيري والعنف. وقد تمثّل الصراع الدرامي في هذه المسرحية في صراع الرائد المسرحي السوري أبي خليل القباني مع القوى الظلامية المتمثلة في شيوخ التكفير والتزمت، الذين عَدّوا مسرحه منكَرا وضلالة وزندقة ومفسدة ومحركا للغرائز والشهوات، وغير ذلك من الأوصاف والنعوت التي تحطّ من مكانته، وتؤلّب المجتمع ضده. وبعد عشر سنوات عاد ونوس إلى تناول هذا الموضوع من زاوية أخرى في مسرحيته “منمنمات تاريخية”، وفيها ذهب إلى زمن حصار التتار لدمشق، منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، والأحداث الرهيبة التي حصلت خلاله. ومن بين أبرز الرؤى التي قامت عليها المسرحية تلك التي تجسّدت في أفكار الشيخ المتطرف “برهان الدين”، رجل النقل الذي يعادي أهل العقل، وقد تآمر مع أقرانه لمساعدة المغول في احتلال دمشق بعدما تحالفوا مع تجار الزور وحكام الجور، وتآمروا على الدمشقيين. في سياق دوره التنويري سعى المسرح إلى إشاعة روح المحبة والتسامح والتعايش والتقريب بين الثقافات واحترام التنوّع والتعدد وفي مصر نشر محمد سلماوي مسرحية “الزهرة والجنزير” عام 1991، وأخرجها جلال الشرقاوي للمسرح القومي عام 1994، وهي تدور حول شاب إرهابي يقوم باختطاف إحدى الأسر ويحتجزها كرهينة، وخلال مدة الاحتجاز يرتبط الإرهابي بالأسرة فيتغيّر فكره، ويرفض في النهاية أوامر قائد الجماعة الإرهابية بقتل الأسرة. وتنطوي المسرحية على شجاعة المواجهة لظاهرة الإرهاب الخطرة، والكشف عن الأسباب التي أدت إليها. ومع استفحال ظاهرتي التطرف والإرهاب في الألفية الثالثة أقبل العديد من المسرحيين العرب على تناولهما، وكانت أبرز تجربة في هذا السياق تجربة المخرج الكويتي سليمان البسام في عرضه “مؤتمر هاملت” (2002)، الذي حوّل فيه “هاملت” من شخصيته الشكسبيرية المعروفة إلى شخصية “الإرهابي” الإسلاموي المتطرف لمواجهة الاستبداد والظلم الذي وقع عليه من عمه قاتل أبيه، وأمه التي تزوجت من قاتل زوجها. وقد انتمى العرض إلى المسرح الإسقاطي السياسي من خلال أحداثه بقضايا الساعة في الواقع العربي والدولي، بما تحمله من سلبيات وآلام ومحن، وركز على الأيام الأخيرة من عهد طاغية؛ مسلطا الضوء على العوامل الداخلية والخارجية، وعرض لحظة سقوط ذلك الطاغية، وما يصاحبها من ظروف. وفي عام 2006 أخرج المخرج التونسي الفاضل الجعايبي مسرحية جريئة عنوانها “خمسون”، تأليف جليلة بكار، تبدأ بحادثة مفجعة: مُدرّسة محجّبة تفجّر نفسها أمام زملائها في المدرسة الثانوية التي تدرّس فيها، وسط العاصمة التونسية، على خلفيّة مشهد يصوّر جماعة من المتديّنين تمارس طقوس الوضوء والصلاة بشكل يطغى عليه الاهتمام المفرط بالتفاصيل والحرص المغالي على النقاء والطهارة، يتلوه ظهور عناصر جهاز الأمن السياسي؛ محاولين الوصول إلى الحقيقة بالاستجواب المباشر لكلّ معارف المدرّسة الانتحاريّة، ومنهم “مريم”، التي يُشتَبه بضلوع ابنتها “أمل”، ذات التوجّهات الإسلاميّة السلفية، في عمليّة التفجير. وتتكرّر مشاهد الاستجواب العنيف للمتهمين، وحتى لمعارفهم، لكن ردّهم يكون بالمزيد من التطرّف الذي تعبّر عنه مشاهد التهييج العاطفي والخطب الملتهبة. وبعد تسع سنوات عرض الجعايبي مسرحية أخرى تتناول التطرف، وما ينتج عنه من عنف، حملت عنوانا مباشرا، هو “عنف”، وقدّمت مقاربة للمجتمع التونسي “الآن وهنا”، على حد تعبير الجعايبي نفسه. وكانت مسرحية موجعة، مخيفة، اكتظّت بمشاهد القسوة والعنف المادي والرمزي بين الرجل والمرأة والمواطن والسلطة، كما سلّطت الضوء على مخاوف الليبراليين في تونس من تزايد نفوذ الإسلاميين في المجتمع بعد الثورة. وقدّم المخرج العراقي مهند هادي في عرضه “قلب الحدث” (2009) ثلاث شخصيات في بغداد (مدمن، امرأة، وبائع صحف) تحت وطأة الإرهاب والاحتلال، تبحث عن الخلاص من معاناتها، لكن رحلة البحث توصلها إلى الموت حين يتلقفها تفجير انتحاري. "عنف" مسرحية موجعة ومخيفة "عنف" مسرحية موجعة ومخيفة وفي عرض ثان لهادي بعنوان “مخيم” (2010) تتأهب الشخصيات للرحيل دائما في لوحات متناثرة، بحثا عن وطن بديل عن وطنها المستباح من المحتلين والإرهابيين والميليشيات ولصوص السلطة، لكنها تجد نفسها في متاهات أخرى أشد وطأة، تطرق أبوابا لا تفضي إلاّ إلى أبواب، وتتحدث عن دوي انفجارات السيارات المفخخة. وفي مهرجان المسرح العربي بالرباط (2015) عرض المخرج العراقي حيدر منعثر مسرحية “إكسلوسيف”، وضع فيها ثلاث شخصيات تصارع للخروج من تحت ثوب أبيض يرمز إلى كفن جماعي، وبالفعل تنجح في فتق الثوب، وكأنها بُعثت من جديد بعد أن راحت ضحية عمليات إرهابية. وقدّمت المسرحية العديد من المشاهد التي تظهر كيف أن التفكير المتطرف أصبح يقتحم بيوت الأسر العربية، بل يخترق عقول صغارها قبل كبارها، وأصبح حاضرا في الحياة اليومية للمواطن العربي البسيط. وكان من الطبيعي ألاّ تغيب مقاربة التطرف والإرهاب عن المسرح في الجزائر، فهو البلد العربي الأكثر تضررا من الإرهاب الأعمى خلال “العشرية السوداء”. ومن بين العروض الأخيرة التي سلطت الضوء على هذه “العشرية” عرض “حب في زمن الطاعون” (2013) للمخرج نسيم أرزي، الذي يحكي قصة زوجين حديثي العهد بالزواج يعانيان من مأساة ما خلفه الإرهاب من همجية ودمار، وعرض “منفى الحرب” (2014) للمخرج بشير بوجمعة، الذي يعود، من خلال الإيحاءات والإيماءات، إلى سنوات الدم، ومعاناة شريحة اجتماعية كبيرة من الظلم والقهر، تعيش حياة أشبه بحياة الكهوف. كما اتجه أغلب عروض مهرجان المسرح العربي، في دورته الثامنة بالجزائر عام 2016، إلى تناول موضوع الحياة والسلام ضد الإرهاب والموت، مثل عرض “دون كيشوت” التونسي، و”يا رب” من العراق، و”فندق العالميين” من الجزائر، و”زي الناس” من مصر، و”النافذة” من سوريا، و”العرس الوحشي” من الأردن، التي اتسمت بإيقاعات مختلفة، لكنها أسّست لسيمفونية موحدة عزفت على أوتار السلام والحياة ونبذ التطرف والإرهاب. ولا شك في أن المسرح العربي سيواصل تناول ظواهر التطرف والإرهاب والعنف في تجاربه، ما دامت ضاربة في بنيته الاجتماعية والسياسية، لكننا نأمل ألاّ يضحي بجماليات فن المسرح، تأليفا وإخراجا، فهي سر ديمومته، وقدرته على البقاء عنصرا فاعلا في ثقافتنا وإبداعنا.

مشاركة :