تلقى صاحب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، اتصالاً من وزير الثقافة المصري الأسبق صابر عرب، وكان هذا الاتصال بمثابة إنقاذ لملايين الوثائق المصرية، التي كانت تتعرض لخطر كبير جراء ضيق المكان الذي يضمها، في مبنى قديم يطل على كورنيش النيل، ولأن سموه يدرك قيمة الوثيقة وعراقة دار الوثائق المصرية، أكثر من غيره، فور تلقيه الاتصال سافر إلى القاهرة لمعاينة الوضع على الطبيعة، واتخذ قراره الكريم لتطوير المبنى الحالي أو بناء مقر جديد، وطلب إعداد دراستين بذلك، كان ذلك عام 2003، واستغرق الأمر أربع سنوات حتى استقر الرأي على تحديد مكان جديد، وبالتعاون مع محافظة القاهرة جرى تخصيص مساحة أرض تصل إلى 5 آلاف متر بمنطقة الفسطاط. جاء اختيار الموقع في قلب القاهرة، ليتوسط مراكز ثقافية وأثرية ودينية، تعتبر علامات في المنطقة، حيث يجاور المكان متحف الحضارة وجامع عمرو بن العاص، وكذا منطقة مجمع الكنائس، وتأتي فلسفة اختيار الموقع لتؤكد رسالة مصر للعالم، فكما تحفظ مصر آثارها ومعالمها الأثرية والسياحية، فإن وثائق مصر في قلبها ولا تقل عنها أهمية، وكان سموه في قلب الصورة، يقدم المشورة والدعم، فقد تحمل تكاليف إنشاء المبنى وتجهيزه إلى أن أصبح منارة يفخر بها كل مصري وعربي. وحتى ندرك حجم الإنجاز الذي قدمه سموه، ينبغي أن نعرف كيف تطورت نظم حفظ الوثائق المصرية عبر العصور، فنظام حفظ الوثائق في مصر من أعرق الأنظمة في العالم، وقد مر بمراحل متعددة، إلى أن انتهى إلى دار الوثائق الجهة المسؤولة عن حفظ الوثائق الخاصة بالمؤسسات والجهات الحكومية، وكان المصري القديم أول من اهتم بحفظ الوثائق والسجلات بغرض الحصول على البيانات والمعلومات، واهتم المصريون القدماء بالتمييز بين الوثائق من حيث نوعها كالرسائل والخرائط وكشوف الحسابات، ومن حيث قيمتها ودرجة سريتها، ومن حيث كونها أصلية أم منسوخة. وفي العصر البطلمي كانت الإسكندرية مقراً للأرشيف المصري، كما وجدت أرشيفات أخرى في الأقاليم المصرية، وفي العصر الروماني زاد عدد الوثائق، فأنشأ الإمبراطور هادريان دار الوثائق العامة، وقد عثر على إحدى الوثائق التي ترجع إلى العام 127 ميلادية، وتشرح أنواع دور الوثائق ونوعية ما يسجل بها من سجلات ووثائق، وفي العصر الإسلامي تشير البرديات العربية إلى أن أحمد بن طولون وضع نواة النظام الذي عرف باسم ديوان الإنشاء الذي كان يحتفظ بنسخ من كل المكاتبات التي تصدر عن الوالي، وفي العصور التالية أصبح ديوان الإنشاء هو الجهة المسؤولة عن حفظ الوثائق والمكاتبات ونصوص الأوامر والمراسيم التي يصدرها سلاطين الأيوبيين والمماليك. وما إن تولى محمد علي حكم مصر حتى سعى إلى تحديث النظم الإدارية للدولة المصرية، ومنها إجراءات حفظ الوثائق والسجلات، خاصة عندما لاحظ أن نظام الحفظ المتبع في العصر العثماني، والقائم على أساس احتفاظ النظار والكتاب والصرافين بأوراقهم بعد عزلهم أو نقلهم، لا يحقق الهدف المرجو في بناء الدولة الحديثة، ولا يمده بالمعلومات والبيانات، فعمل على توحيد أماكن الحفظ في مؤسسة واحدة تكون مسؤولة عن جمع الوثائق والسجلات من جميع المصالح والدواوين والأقاليم، وقد شجعه على ذلك فقدان الكثير من الوثائق المهمة في أكثر من مناسبة، فعندما ثار عليه الجنود الأرناؤوط بعدما قام بتخفيض رواتبهم، اضطر إلى الهرب والإقامة في القلعة، فنهبت داره التي كانت بالأزبكية، وفقد الكثير من الأوراق، ومن بينها وثيقة المعاهدة التي وقعها مع الجنرال فريزر قائد الحملة الإنجليزية على رشيد. وقد حدث أن شب حريق في ديوان الكتخدا (نائب الباشا) في 18 يونيو/حزيران 1820 فأتى على ما كان فيه من سجلات ووثائق، ولذلك رأى محمد علي ضرورة إيجاد مكان يحتفظ فيه بدفاتره وأوراقه، ويكون صالحاً لحمايتها من السرقة والحريق والتلف، وكانت القلعة هي المكان الأنسب لتحقيق هذا الغرض، فأمر محمد علي بإنشاء الدفتر خانة المصرية في عام 1828 ، وذلك قبل نحو عشر سنوات من إنشاء دار المحفوظات العامة في لندن، وفي عهد الخديوي عباس حلمي تم تغيير الاسم إلى دار المحفوظات العمومية. وفي عام 1932 أمر الملك فؤاد بإنشاء قسم المحفوظات التاريخية في قصر عابدين، وتحددت مهمته في جمع الوثائق الخاصة بأسرة محمد علي وإتاحتها لمجموعة من المؤرخين الأجانب والمصريين، تم انتقاؤهم لكتابة تاريخ الأسرة العلوية، لكن مع قيام ثورة يوليو 1952 لم يعد قسم المحفوظات التاريخية بقصر عابدين يحقق رغبة رجال الثورة كأرشيف وطني يحتفظ بالوثائق ويكون متاحاً لكتابة تاريخ مصر القومي بكل عصوره، ولجميع أفراد الشعب من باحثين ومستفيدين. وأصبح من الضروري استحداث دار الوثائق التاريخية القومية في عام 1954 ووظيفتها جمع وحفظ الوثائق وإتاحتها للباحثين، واختير لها مكان بالقلعة، وفي عام 1990 انتقلت دار الوثائق من القلعة إلى موقعها الحالي بكورنيش النيل، وذلك بعد أن صدر قرار جمهوري بشأن المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها واستعمالها، إلى أن تكرم سموه بدعم إنشاء المبنى الجديد للدار في منطقة الفسطاط، ويضم 100 مليون وثيقة تتعلق بتاريخ مصر والعالم منذ العصر الفاطمي حتى الوقت الراهن، كما تتنوع الوثائق في امتدادها الجغرافي وتتنوع في أشكالها، وينتمي بعضها إلى العصر الإسلامي، إضافة إلى أن الدار تحتفظ بعدد كبير من السجلات والوثائق الخاصة بتاريخ السودان وشرق ووسط إفريقيا، كما تحتفظ الدار بعدد كبير من الوثائق الخاصة بتاريخ بلاد الشام والجزيرة العربية. إن داراً للوثائق بهذا الحجم لم يعد لدى المبنى الكائن على كورنيش النيل طاقة لاستيعابها، خصوصا أن مؤسسات الدولة تزود الدار سنويا بما لا يقل عن 9 ملايين وثيقة، كما أن المبنى القديم ليس به أماكن تحتاجها الدار لعمليات الرقمنة والفهرسة الإلكترونية، هذا بجانب صعوبة التوسع وتنفيذ خطط التطوير المرتبطة بالخدمات التي تقدم للباحثين والدارسين والمستفيدين، التي تتطور بتطور العصر، وهو ما يعني الحاجة إلى مساحات إضافية لتقديم هذه الخدمات وبأحدث التقنيات العلمية الحديثة، وبما يواكب تطور تكنولوجيا المعلومات. وهذا ما يجعلنا نقف بإكبار وتقدير لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الذي يعرف قيمة الوثيقة في كتابة تاريخ هذه الأمة، وهذا ما جعل وزير الثقافة المصري د.عبد الواحد النبوي يصفه بأنه: حاكم قل أن يجود الزمان بمثله، فاهتمامه بالعلم والثقافة في عصرنا الحالي قل من يجاريه فيه، وهذا أيضاً ما جعل د.صابر عرب يقول: إن الشيخ الدكتور سلطان القاسمي يعد حالة منفردة في حياتنا الثقافية، كما أن علاقته بمصر ومؤسساتها الثقافية والأكاديمية تعد حالة إنسانية خاصة جدا، فلم تنقطع علاقته بالكثير من المؤسسات المصرية، فجامعة القاهرة التي شيد لها مكتبة كلية الزراعة التي تخرج فيها، فضلاً على المكتبة المركزية بالجامعة، وقبل ذلك مبنى الجمعية المصرية التاريخية، وكان طبيعياً أن يكتب المهندس إبراهيم محلب كلمة في دفتر التشريفات بالمبنى الجديد لدار الوثائق القومية أثناء افتتاح سموه له: لقد أحببت مصر فأحبك المصريون.
مشاركة :