سلطان‮..‬ منقذ الذاكرة من الضياع

  • 5/18/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تلقى صاحب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي‮ ‬عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة،‮ ‬اتصالاً‮ ‬من وزير الثقافة المصري‮ ‬الأسبق صابر عرب،‮ ‬وكان هذا الاتصال بمثابة إنقاذ لملايين الوثائق المصرية،‮ ‬التي‮ ‬كانت تتعرض لخطر كبير جراء ضيق المكان الذي‮ ‬يضمها،‮ ‬في‮ ‬مبنى قديم‮ ‬يطل على كورنيش النيل،‮ ‬ولأن سموه‮ ‬يدرك قيمة الوثيقة وعراقة دار الوثائق المصرية،‮ ‬أكثر من‮ ‬غيره،‮ ‬فور تلقيه الاتصال سافر إلى القاهرة لمعاينة الوضع على الطبيعة،‮ ‬واتخذ قراره الكريم لتطوير المبنى الحالي‮ ‬أو بناء مقر جديد،‮ ‬وطلب إعداد دراستين بذلك،‮ ‬كان ذلك عام‮ ‬2003،‮ ‬واستغرق الأمر أربع سنوات حتى استقر الرأي‮ ‬على تحديد مكان جديد،‮ ‬وبالتعاون مع محافظة القاهرة جرى تخصيص مساحة أرض تصل إلى‮ ‬5‮ ‬آلاف متر بمنطقة الفسطاط‮.‬ جاء اختيار الموقع في‮ ‬قلب القاهرة،‮ ‬ليتوسط مراكز ثقافية وأثرية ودينية،‮ ‬تعتبر علامات في‮ ‬المنطقة،‮ ‬حيث‮ ‬يجاور المكان متحف الحضارة وجامع عمرو بن العاص،‮ ‬وكذا منطقة مجمع الكنائس،‮ ‬وتأتي‮ ‬فلسفة اختيار الموقع لتؤكد رسالة مصر للعالم،‮ ‬فكما تحفظ مصر آثارها ومعالمها الأثرية والسياحية،‮ ‬فإن وثائق مصر في‮ ‬قلبها ولا تقل عنها أهمية،‮ ‬وكان سموه في‮ ‬قلب الصورة،‮ ‬يقدم المشورة والدعم،‮ ‬فقد تحمل تكاليف إنشاء المبنى وتجهيزه إلى أن أصبح منارة‮ ‬يفخر بها كل مصري‮ ‬وعربي‮.‬ وحتى ندرك حجم الإنجاز الذي‮ ‬قدمه سموه،‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نعرف كيف تطورت نظم حفظ الوثائق المصرية عبر العصور،‮ ‬فنظام حفظ الوثائق في‮ ‬مصر من أعرق الأنظمة في‮ ‬العالم،‮ ‬وقد مر بمراحل متعددة،‮ ‬إلى أن انتهى إلى دار الوثائق الجهة المسؤولة عن حفظ الوثائق الخاصة بالمؤسسات والجهات الحكومية،‮ ‬وكان المصري‮ ‬القديم أول من اهتم بحفظ الوثائق والسجلات بغرض الحصول على البيانات والمعلومات،‮ ‬واهتم المصريون القدماء بالتمييز بين الوثائق من حيث نوعها كالرسائل والخرائط وكشوف الحسابات،‮ ‬ومن حيث قيمتها ودرجة سريتها،‮ ‬ومن حيث كونها أصلية أم منسوخة‮.‬ وفي‮ ‬العصر البطلمي‮ ‬كانت الإسكندرية مقراً للأرشيف المصري،‮ ‬كما وجدت أرشيفات أخرى في‮ ‬الأقاليم المصرية،‮ ‬وفي‮ ‬العصر الروماني‮ ‬زاد عدد الوثائق،‮ ‬فأنشأ الإمبراطور هادريان دار الوثائق العامة،‮ ‬وقد عثر على إحدى الوثائق التي‮ ‬ترجع إلى العام‮ ‬127‮ ‬ميلادية،‮ ‬وتشرح أنواع دور الوثائق ونوعية ما‮ ‬يسجل بها من سجلات ووثائق،‮ ‬وفي‮ ‬العصر الإسلامي‮ ‬تشير البرديات العربية إلى أن أحمد بن طولون وضع نواة النظام الذي‮ ‬عرف باسم‮ ‬ديوان الإنشاء‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يحتفظ بنسخ من كل المكاتبات التي‮ ‬تصدر عن الوالي،‮ ‬وفي‮ ‬العصور التالية أصبح‮ ‬ديوان الإنشاء‮ ‬هو الجهة المسؤولة عن حفظ الوثائق والمكاتبات ونصوص الأوامر والمراسيم التي‮ ‬يصدرها سلاطين الأيوبيين والمماليك‮.‬ وما إن تولى محمد علي‮ ‬حكم مصر حتى سعى إلى تحديث النظم الإدارية للدولة المصرية،‮ ‬ومنها إجراءات حفظ الوثائق والسجلات،‮ ‬خاصة عندما لاحظ أن نظام الحفظ المتبع في‮ ‬العصر العثماني،‮ ‬والقائم على أساس احتفاظ النظار والكتاب والصرافين بأوراقهم بعد عزلهم أو نقلهم،‮ ‬لا‮ ‬يحقق الهدف المرجو في‮ ‬بناء الدولة الحديثة،‮ ‬ولا‮ ‬يمده بالمعلومات والبيانات،‮ ‬فعمل على توحيد أماكن الحفظ في‮ ‬مؤسسة واحدة تكون مسؤولة عن جمع الوثائق والسجلات من جميع المصالح والدواوين والأقاليم،‮ ‬وقد شجعه على ذلك فقدان الكثير من الوثائق المهمة في‮ ‬أكثر من مناسبة،‮ ‬فعندما ثار عليه الجنود الأرناؤوط بعدما قام بتخفيض رواتبهم،‮ ‬اضطر إلى الهرب والإقامة في‮ ‬القلعة،‮ ‬فنهبت داره التي‮ ‬كانت بالأزبكية،‮ ‬وفقد الكثير من الأوراق،‮ ‬ومن بينها وثيقة المعاهدة التي‮ ‬وقعها مع الجنرال فريزر قائد الحملة الإنجليزية على رشيد‮.‬ وقد حدث أن شب حريق في‮ ‬ديوان الكتخدا‮ (‬نائب الباشا‮) ‬في‮ ‬18‮ ‬يونيو/حزيران‮ ‬1820‮ ‬فأتى على ما كان فيه من سجلات ووثائق،‮ ‬ولذلك رأى محمد علي‮ ‬ضرورة إيجاد مكان‮ ‬يحتفظ فيه بدفاتره وأوراقه،‮ ‬ويكون صالحاً لحمايتها من السرقة والحريق والتلف،‮ ‬وكانت القلعة هي‮ ‬المكان الأنسب لتحقيق هذا الغرض،‮ ‬فأمر محمد علي‮ ‬بإنشاء‮ ‬الدفتر خانة المصرية‮ ‬في‮ ‬عام ‮ ‬1828 ،‮ ‬وذلك قبل نحو عشر سنوات من إنشاء دار المحفوظات العامة في‮ ‬لندن،‮ ‬وفي‮ ‬عهد الخديوي‮ ‬عباس حلمي‮ ‬تم تغيير الاسم إلى‮ ‬دار المحفوظات العمومية‮.‬ وفي‮ ‬عام‮ ‬1932‮ ‬أمر الملك فؤاد بإنشاء قسم‮ ‬المحفوظات التاريخية‮ ‬في‮ ‬قصر عابدين،‮ ‬وتحددت مهمته في‮ ‬جمع الوثائق الخاصة بأسرة محمد علي‮ ‬وإتاحتها لمجموعة من المؤرخين الأجانب والمصريين،‮ ‬تم انتقاؤهم لكتابة تاريخ الأسرة العلوية،‮ ‬لكن مع قيام ثورة‮ ‬يوليو‮ ‬1952‮ ‬لم‮ ‬يعد قسم المحفوظات التاريخية بقصر عابدين‮ ‬يحقق رغبة رجال الثورة كأرشيف وطني‮ ‬يحتفظ بالوثائق ويكون متاحاً لكتابة تاريخ مصر القومي‮ ‬بكل عصوره،‮ ‬ولجميع أفراد الشعب من باحثين ومستفيدين‮.‬ وأصبح من الضروري‮ ‬استحداث‮ ‬دار الوثائق التاريخية القومية‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1954‮ ‬ووظيفتها جمع وحفظ الوثائق وإتاحتها للباحثين،‮ ‬واختير لها مكان بالقلعة،‮ ‬وفي‮ ‬عام‮ ‬1990‮ ‬انتقلت دار الوثائق من القلعة إلى موقعها الحالي‮ ‬بكورنيش النيل،‮ ‬وذلك بعد أن صدر قرار جمهوري‮ ‬بشأن المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها واستعمالها،‮ ‬إلى أن تكرم سموه بدعم إنشاء المبنى الجديد للدار في‮ ‬منطقة الفسطاط،‮ ‬ويضم‮ ‬100‮ ‬مليون وثيقة تتعلق بتاريخ مصر والعالم منذ العصر الفاطمي‮ ‬حتى الوقت الراهن،‮ ‬كما تتنوع الوثائق في‮ ‬امتدادها الجغرافي‮ ‬وتتنوع في‮ ‬أشكالها،‮ ‬وينتمي‮ ‬بعضها إلى العصر الإسلامي،‮ ‬إضافة إلى أن الدار تحتفظ بعدد كبير من السجلات والوثائق الخاصة بتاريخ السودان وشرق ووسط إفريقيا،‮ ‬كما تحتفظ الدار بعدد كبير من الوثائق الخاصة بتاريخ بلاد الشام والجزيرة العربية‮.‬ إن داراً للوثائق بهذا الحجم لم‮ ‬يعد لدى المبنى الكائن على كورنيش النيل طاقة لاستيعابها،‮ ‬خصوصا أن مؤسسات الدولة تزود الدار سنويا بما لا‮ ‬يقل عن‮ ‬9‮ ‬ملايين وثيقة،‮ ‬كما أن المبنى القديم ليس به أماكن تحتاجها الدار لعمليات الرقمنة والفهرسة الإلكترونية،‮ ‬هذا بجانب صعوبة التوسع وتنفيذ خطط التطوير المرتبطة بالخدمات التي‮ ‬تقدم للباحثين والدارسين والمستفيدين،‮ ‬التي‮ ‬تتطور بتطور العصر،‮ ‬وهو ما‮ ‬يعني‮ ‬الحاجة إلى مساحات إضافية لتقديم هذه الخدمات وبأحدث التقنيات العلمية الحديثة،‮ ‬وبما‮ ‬يواكب تطور تكنولوجيا المعلومات‮.‬ وهذا ما‮ ‬يجعلنا نقف بإكبار وتقدير لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي،‮ ‬الذي‮ ‬يعرف قيمة الوثيقة في‮ ‬كتابة تاريخ هذه الأمة،‮ ‬وهذا ما جعل وزير الثقافة المصري‮ ‬د‮.‬عبد الواحد النبوي‮ ‬يصفه بأنه‮: ‬حاكم قل أن‮ ‬يجود الزمان بمثله،‮ ‬فاهتمامه بالعلم والثقافة في‮ ‬عصرنا الحالي‮ ‬قل من‮ ‬يجاريه فيه‮‬،‮ ‬وهذا أيضاً‮ ‬ما جعل د‮.‬صابر عرب‮ ‬يقول‮: ‬إن الشيخ الدكتور سلطان القاسمي‮ ‬يعد حالة منفردة في‮ ‬حياتنا الثقافية،‮ ‬كما أن علاقته بمصر ومؤسساتها الثقافية والأكاديمية تعد حالة إنسانية خاصة جدا،‮ ‬فلم تنقطع علاقته بالكثير من المؤسسات المصرية،‮ ‬فجامعة القاهرة التي‮ ‬شيد لها مكتبة كلية الزراعة التي‮ ‬تخرج فيها،‮ ‬فضلاً‮ ‬على المكتبة المركزية بالجامعة،‮ ‬وقبل ذلك مبنى الجمعية المصرية التاريخية‮‬،‮ ‬وكان طبيعياً أن‮ ‬يكتب المهندس إبراهيم محلب كلمة في‮ ‬دفتر التشريفات بالمبنى الجديد لدار الوثائق القومية أثناء افتتاح سموه له‮: ‬لقد أحببت مصر فأحبك المصريون‮.‬

مشاركة :