لا يزال لقب "عمدة وسط البلد" مُتشبثًا بصاحبه مكاوي سعيد، الذي فارق عالمنا تاركًا إرثًا واسعًا من الحكايات البعيدة عن التصنيف كما كان يقول بنفسه؛ فالرجل أبدع عدة مؤلفات صنعت لنفسها مكانًا بين عاشقي القراءة، من أشهرها "تغريدة البجعة" وأضخمها "أن تحبك جيهان"، وترك بدوره رصيدًا من الحكايات لا يقل عن هذا الإبداع، خاصة وأنه ظل فخورًا بمنطقته وسط البلد وهو يجمع مقتنياتها في أكثر من كتاب.في كتابه "القاهرة وما فيها- حكايات، أمكنة، أزمنة"، الذي صدر بعد وفاته بأيام عن الدار المصرية اللبنانية، وجاء حاملُا على غلافه آخر صور مكاوي في مقهاه المُفضّل "زهرة البستان"، ازدحمت الحكايات القصيرة الممتعة التي زادت عن الخمسة وأربعين، وتنوعت ما بين بالغة القِصر والفضفاضة السرد، وكأن مكاوي كان يفرغ أكثر ما في جعبته قبل الرحيل، مُزينًا ما بين الحكايات بصور الشخصيات والأماكن التي تحدث عنها. لم يروِ حكاياته بترتيب زمني أو رحلة محددة في المكان، بل اتخذ المتعة طريقًا كافيًا، في رحلة مدهشة من بدايات عصر النهضة إلى عمق الخلافة الفاطمية التي أسست القاهرة، ومن شخصيات أسست مصر الحديثة في نهايات القرن التاسع عشر إلى أشهر من مرّ بهذه "البقعة المباركة"، كما وصفها، خلال القرن العشرين.في حكايته الأولى "تبقى في بقك وتقسم لغيرك"، روى مكاوي المفارقة الساخرة التي أضاعت على "بسي بك" مدير مصلحة التلغراف في أيام الخديو سعيد باشا الأخيرة، والذي ظل ساهرًا ليلة وفاته ليحمل إلى الأمير إسماعيل ولي عهده خبر وفاة الباشا وتوليه عرش مصر؛ لكن سلطان النوم غلب البك المشتاق إلى الباشوية، لينتهز موظفًا صغيرًا من الأفندية الفرصة وينقل الخبر، ليصبح بك وينعم عليه الوالي الجديد بالعطايا.وفي حكايته عن " على مبارك وزكي جمعة" التقط العبارة الساخرة التي جاءت على لسان الفنان الكبير عادل إمام في مسرحية "مدرسة المشاغبين" حول على باشا مبارك، أحد رموز التنوير في مصر، ليروي عن الرجل ما لا يعرفه عنه الكثير من المصريين، متوغلًا -رغم عباراته القصيرة- في الأسس التي وضعها مبارك للتعليم، حتى أنه ذكر لائحة إصلاح التعليم التي أصدرها في نوفمبر 1867 والتي كانت تتضمن أن يُصرف لكل تلميذ مجانًا "3 قمصان، طربوشان، 1 زر حرير، 3 لباس، 3 طواقي غزلية، 3 جلاليب ملونة شكل واحد مسدودة الصدر بياقة، 3 صديريات، 4 شرابات بيضاء، 1 كبود للشتاء على سنتين، أبتة حزام جلد بأبزيم، 3 دكات لباس".روى العمدة كذلك حكاية أشهر المجانين الذين حكموا أهم عواصم الشرق، وهو الخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله" ذو الأوامر الغريبة والاختفاء المفاجيء من الحياة وصفحات التاريخ، وأغرب أوامره إلى سكان ما صارت فيما بعد تحمل اسم "المحروسة"، مثلما قرر أن يعمل الجميع في الليل لا النهار، وأوامر تنظيم بيع الطعام في الأسواق، واصفًا تلك القرارات -التي يرى أنها تحمل شيئًا من الإصلاح- بأنها جاءت من "روح مصلح مجنون" كما وصفه؛ وانتقل بعدها إلى المقريزي الذي أخذ المصريون منه أصل كلمة "شربوش" التي لا تزال تُطلق في المقاهي على الغطاء الصاج الذي يوضع فوق حجر الشيشة ليقلل من دخول الهواء أو خروج الدخان حتى لا يحترق المعسل بسرعة، وهو ما بقى من تسمية كانت تُطلق يومًا على عمائم الأمراء التي كانت أقل حجمًا من عمائم السلاطين، وكان لها سوقًا هو "سوق الشرابيشيين"؛ وجاء من بعدها مصطلح لايزال الأشهر إلى يومنا وهو "الكلوت" الذي كان يُنطق في الأصل "كلوتة" وهي أخف من الشربوش لكنها تعادله قيمة، وكان جمعها "كلوتات"؛ كذلك يوّضح النطق الحقيقي لكلمة "كركون" التي تُطلق على أقسام ونقاط الشرطة، وهو الاسم الذي تم تحريفه من "قره قول"، الاسم الأول الذي أطلقه الوالي محمد على باشا على مراكز البوليس التي جعلها ثمانية بعدد مناطق القاهرة آنذاك، وأيضًا تغيير اسم البرقوق في عهد السلطان الذي يحمل الاسم نفسه، حتى لا يسخر العامة من السلطان في الطرقات والأسواق.أمّا "بياعين الفرح"، الذي صدر عن دار العين للنشر، فبين صفحاته مجموعة كبيرة من المقالات والحكايات والتأملات التي تتناول عوالم مختلفة، تناولها بأسلوب يكاد يكون في أغلبه ساخرًا، منها عالم الطفولة، الأسرة، التأمل، الإرهاب، الفن، الأغنية، وحتى المأكولات؛ واضعًا من خلال تلك العوالم معلومات مكثفة عن الأغاني والأفلام القديمة، وحياة الفنانين وشخصياتهم، والتراث والأمثال الشعبية؛ دون أن ينسى البعد الفلسفي لحكاياته، وتوضيحه للكثير من الأفكار المغلوطة والتفسيرات الخاطئة لها؛ بداية من اختياره لعنوان الكتاب المأخوذ من أغنية "يا بياعين الفرح"، التي كتبها الراحل جليل البنداري، والذي ظهر في الكتاب مدى إعجابه به، ليختصه بأكثر من مقال تناول فيه عطائه الغزير في مجالات الصحافة الفنية، والنقد الفني، وكتابة الرواية، والأغاني، والكتابة للسينما خلال عقدي الخمسينيات والستينيات.هكذا تجد مكاوي سعيد يناقش في حكاية "في مديح الغراب" ومقال "الببغاء الذي نعى نفسه"، الأفكار غير السليمة عن الغراب قائلًا "من الأفكار الخاطئة تفسير مشية الغراب الغريبة التي تشبه القفزات، بأن الغراب في سالف العصر والأوان أعجبته مشية الطاووس فأراد أن يقلده وفشل، وعندما أراد العودة إلى مشيته الأصلية فشل في استعادتها لأنه نساها فظل على هذا الحال من التخبط، الغراب الذي ظلم سابقًا باعتباره "نذير شؤم" وإلى وقتنا هذا يتطير منه غالبية الناس وينزعجون من صيحته.. ظلمنا الغراب يا سادة وهو من أكثر الطيور حكمة وعمرًا".تصادم مكاوي مع المغالطات الموجودة بالتراث في كتابه، فجاء مقاله "في ذم الكروان" ليُشير إلى احتفاء الأدباء والشعراء والفنانين بصوت الكروان والتفاؤل به "وهم لا يلتفتون إلى أن طائر الكروان من أشرس الطيور وأكثرها قسوة، ويسلي وقته بكسر بيض الطيور الأخرى في غفلة منها، إضافة إلى أن ذلك الصوت الذي يعتقد الكثير بأنه تسبيح رب الملكوت ما هو إلا صيحات حادة يطلقها في الظلام ليخدر بها الحشرات والطيور الصغيرة لاصطيادها"، وأنهى ذلك المقال ساخرًا بقوله "باختصار يعنى حضرتك تكون جالسًا بجوار حبيبتك تتغزل في محاسنها وتتلمس يديها ويمر بك صوت الكروان فتنتشى أكثر دون أن تدرك أن في هذه اللحظة بالضبط سينغرس منقار هذا الطائر في بطن عصفور صغير لم يتعرف على الدنيا بعد". ورغم سيادة الروح الساخرة على أرجاء الكتاب، إلا أن كاتب "كرأسة التحرير" لم يغفل عن تناول قضايا شائكة مثل الإرهاب والعنصرية التي تعتبر من أهم مشكلات المجتمع المصري في الوقت الحالي، فكتب "لو سمحت نزلني قدام الكنيسة"، والذي يحتوى لقطات من ملف صدر في مجلة "صباح الخير" لتحية أقباط مصر بعيدهم، مشيرًا إلى مقال ضمن الملف كتبته أمل فوزى حول العنصرية و"الكلاشيهات" التي صارت محفوظة ويقولها الناس بتلقائية وهى تحوى ألغامًا مريعة، مثلما يقول شخص "أنا مديري مسيحي بس رجل محترم جدًا"، أو يقول آخر: "جار مسيحي بس ماشوفتش منه حاجة وحشة".
مشاركة :