إذا استثنينا واجهة أوتيل كارلتون الذي لم يخرج عن عادته منذ سنوات بعرض إعلانات ضخمة لفيلم أو فيلمين أميركيين كبيرين أمام عيون المارة المدهوشة، ليس من السهل في طول مهرجان «كان» وعرضه العثور على أثر للسينما الأميركية الضخمة التي لا تتوقف وكالات الأنباء والفضائيات العربية عن إتحافنا بأخبارها وأخبار شبابيك تذاكرها يومياً. فمنذ وقت بعيد تغيب السينما الأميركية عن «كان» ولو جزئياً. لكن «كان» لم يكن يشكو كثيراً من هذا الغياب. فالسينمات العالمية اعتادت أن تدبّر شؤونها وشؤون صفقات أفلامها في معزل عن سوق أميركية تتضاءل أكثر وأكثر أمام سينمات الأمم الأخرى. ولئن ظل هناك شيء من الشكوى تسود أوساط هذه السينمات، لا سيما في الأيام الأخيرة لسوق الفيلم حين تجري كل شركة حسابات الأرباح والخسائر وبيع الأفلام وشرائها، واضح هذا العام أن صوت الشكوى بدأ يعلو منذ الأيام الأولى. السينما في أزمة والأفلام لا تُباع كما كانت تفعل. والأفلام المعنية هنا هي الأوروبية في شكل خاص، وملحقاتها. والسبب؟ انخفاض سعر اليورو مقابل الدولار وارتفاع هذا في شكل متواصل منذ شهور. سينمائياً معنى هذا أن أوروبا وشركاتها مضطرة لأن تدفع أكثر ثمن الأفلام الأميركية التي هي الوحيدة تقريباً التي يستسيغها الجمهور العريض. فيما تشتري أميركا الأفلام الأوروبية القليلة بدولارات أقل. بل إن أميركا المثقفة صار لديها، وفق الخبراء، كمّ كبير من الأفلام «المثقفة» التي تعرض في مهرجانات مثل «ساندانس»، ومن ثم في الصالات النخبوية بحيث لم تعد في حاجة ماسة إلى أفلام أوروبا. هل معنى هذا أن السينمات الأوروبية ستنهار إن ظل الوضع على حاله؟ ربما، يقول البعض، وحركة سوق الفيلم في «كان» التي تجد انعكاسها في أخبار الصفقات التي تملأ صفحات المجلات الكانيّة المختصة مثل «فارايتي» و «هوليوود ريبورتر» و «سكرين»، تعزز هذه الربما بالتأكيد. فحتى اليوم ليس ثمة بعد أخبار عن صفقات كبيرة، فيما تتردد أخبار تحملها «فارايتي» من أميركا عن صفقات ضخمة تتعلق بأفلام أميركية غير جماهيرية، لكنها غير «كانيّة» أيضاً، مثل الوثائقي عن «ستيف جوبز الرجل في الآلة» و «هاللو اسمي دوريس» و «ستون عاماً». ومن الواضح أن هذا يعني استشراء أزمة السينمات غير الأميركية أكثر وأكثر، إذ يضيف انخفاض سعر اليورو بأكثر من الربع، مزيداً من التأزم في أسواق هي أصلا متأزمة في ما يتعلق بإنتاج فني يعيش أوقاتاً صعبة بفعل الغياب التدرجي لأسواقه، ومنها أسواق الشرق الأوسط وآسيا وأميركا اللاتينية. فما الحل؟ اسم واحد تتداوله اليوم ألسنة الخبراء: الصين. الصين هي الحل. فالصين تبدو اليوم واحدة من أكبر الأسواق التي لا تزال قادرة على استيعاب إنتاجات السينمات غير الأميركية، لا سيما الأفلام الأوروبية التي تلقى حظوة لدى ملايين المتفرجين في الصين، كما تلقى نوعاً من التساهل الرقابي يتزامن مع احتلال السينما الصينية نفسها مكانة مهمة في خريطة العروض المحلية والعالمية. من هنا، تتوجه العيون في سوق الفيلم في «كان» اليوم كما في غرف الفنادق ودهاليز مكاتب الشركات الموقتة في أروقة المهرجان، إلى المشترين الصينيين الذين لا يتخذون قراراتهم بسرعة وحزم فحسب، بل يدفعون فوراً، ولكن باليورو الذي يشترونه اليوم بدولارات زهيدة. هذا الحل الصيني يبدو الوحيد القادر فعلاً على إنقاذ السينما من الوصول إلى ما يشبه الموت السريري، مع أن ثمة عقبة تبدو قاتلة هنا إن لم تبادر السلطات الصينية بإيجاد ترياق لها: القرصنة. فالصين أكبر بلد مقرصن للأفلام في العالم... والمشترون الصينيون في «كان» إذ يقرون بهذا يبتسمون باستسلام قائلين أن في وسعهم أن يضمنوا كل شيء باستثناء إيجاد حل لهذه المعضلة التي لولاها لكانت السينما بألف خير
مشاركة :