نشرت منذ شهرين قصيدة (غيبوبة حي بن يقظان الصغرى)، وقد كنت قبلها وإلى الآن مشغولاً بفهم (الغيبوبة) لأسباب كثيرة ليس أقلها من أصيب بها ممن أعرف، بعضهم عوفي أو في الطريق إلى العافية، وبعضهم مازال لم يصح منها (أسأل الله أن يرفع عنهم ويعيدهم لأهلهم سالمين)، ومع ما يعتري (الغيبوبة) من غياب عن الوعي بدرجات مختلفة، يعرفها من جلس بقرب ابن غائب يعود رويداً رويداً كما لو أنه يصعد سلم الوعي درجة درجة: خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، سيتوقف الأطباء عن العد ربما بعد الدرجة الخامسة عشرة حسب معيار جيلاسكو للغيبوبة، عندما يصبح الوعي طبيعياً ومناسباً ليعتمد المريض على نفسه لقضاء حاجاته اليومية دون مساعدة. سيقف الأطباء عن العد بعد الخامسة عشرة، لكن سيواصل الأهل والأصحاب عدهم بطريقتهم الخاصة، وربما على فترات متباعدة، وبأساليب مختلفة، سيلاحظ الأهل أولاً قدرة ابنهم على قبض كوب القهوة بيسر ودون تكلف في ليالي البرد الطويلة، سيعدون بمعيار الثقافة واللياقة في استلام الفنجال حين تستدير الأصابع بصورة غير متماثلة لحظة استلامه، ولحظة هزه بارتعاشة إرادية ظلت تظهر في الوقت المناسب مع تعافيه كل يوم، سيلحظ الأصحاب قدرة صديقهم على رواية النكت دون تردد أو نسيان في اللحظات المفصلية من الرواية، أو قدرته على السخرية من أخطائهم الساذجة، سيتوقف الأهل والأصحاب عن العد بعد كل ذلك، ويبدؤون في رحلة النسيان. سيقف الناس عن العد، القريب منهم والبعيد، كل واحد منهم على حدة، لكن سيبقى نفسه من صعد العتبات كلها يعد عتبات وعيه الداخلي بعيداً عن شفقة المحبين ولهفتهم، عندها يتساوى وعيه الداخلي بوعي الآخرين ربما، وقد يتوقف عن العد، لكن الصعود في مستويات الوعي ليس مقصوراً على من صعدوا عتبات وعيهم وحدهم، بل يشترك في ذلك كل من عوفي ولم يغب وعيه قط، إنما الوعي في كل الحالات درجات يتفاوت فيها الناس، كم مرة وعيت على نفسك تسير في الطريق الخطأ لسنوات كما لو كنت في حلم سحيق؟ قد يشترك في غياب الوعي مجتمع بأكمله، وقد يسود وعي زائف مجتمعات عدة لأعصر كثيرة، فمن طبيعة الوعي قبول ما يدركه الإنسان داخلياً وعدم إدراك غيره، فيصبح وعيه عن العالم مخالفاً للحقيقة، بل قد يكون وعياً زائفاً، لذلك يصعب الانتقال من وعي لآخر دون المرور بصدمة، فبنية المعرفة التي تكون وعيك بالعالم متماسكة وصلبة حتى تنهار، كما لو بنى إنسان سوراً من طين يحيط بكل ما يملك، فيظل يرعى هذا السور حتى يصيبه سيل يقضي عليه، وعينا بالعالم هو هذا السور الذي يحجب عنا أن نعرف ما وراءه، ونحن في وعينا نصعد درجات ترتفع بنا فنرى أبعد، فندرك ما وراء السور، عابرين برؤيتنا أسوار التاريخ والجغرافيا.
مشاركة :