يقول المثل الشعبي «دمعة الرجال عزيزة». وبهذه العزة لا أتذكر أن سالت دمعة من عيني منذ سنوات. لم أذرف منها دموعا حتى على مصر عندما فاز الإخوان المسلمون في الانتخابات. تعودت قلوبنا وأعيننا على ما يحل بشعوبنا من الكوارث. أصبحت تثير ضحكنا بدلا من ألمنا وغضبنا. وهو ما أفعله في هذه الزاوية. بيد أنني لم أتمالك حبس الدموع من عيني قبل أيام وأنا أشاهد تلك اللقطة السينمائية الوثائقية من الفيلم الكردي «حلبجة: الأطفال المفقودون». ضمن مهرجان الأفلام الكردية الذي شهدته لندن قبل أيام. والكثير من الأفلام الكردية أصبحت تضاهي الفيلم السعودي «وجدة» في روعتها وعالميتها، وإن تخلفت عن الفيلم السعودي في ظرفها وسخريتها. فالكرد لا يجدون في حياتهم ما يضحكهم. «حلبجة: الأطفال المفقودون» فيلم أخرجه أكرم حيدو معتمدا على ما تيسر أمامه من الأفلام الوثائقية والمناظر الطبيعية والمقابلات مع من عاش ولم يمت في تلك المجزرة التي قام بها صدام حسين باستعمال الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. بعد الغارة الإجرامية التي تعرضت لها المدينة الحدودية حلبجة، هلكت الكثير من العوائل تاركة أطفالا لا معين لهم ولا معيل. أسرع الإيرانيون عبر الحدود والتقفوا نحو خمسمائة منهم، ذكورا وإناثا. أخذوهم إلى إيران وأعاشوهم وربوهم. كانت عملية إنسانية مشكورة، لولا.. لولا أنهم احتفظوا بهم ولم يعيدوهم لأهلهم ومدينتهم. تحولت عملية الإنقاذ إلى عملية خطف. وأصبح الأولاد لقطاء بدلا من ضحايا حرب. بذل أهاليهم والسلطات الكردية جهودا كبيرة للعثور عليهم واستعادتهم من دون جدوى. بيد أن نفرا من أولئك الأولاد اكتشفوا حكايتهم وعرفوا أصولهم فسعوا للعودة إلى مدينتهم والبحث عن عوائلهم وأقاربهم. نجح في ذلك عدد قليل. وفيلم أكرم حيدو يتابع هذه المأساة. عاد شاب منهم يبحث عن أهله. فأسرعت خمس عوائل فقدت أولادها للادعاء به بناء على القرائن والاحتمالات. تقرر إحالة الشاب لفحص «دي إن إيه» ومقارنته بدم هذه العوائل الخمس. تم ذلك وتوصل الأطباء للنتيجة. دعوا العوائل المدعية بالشاب لجلسة علنية حضرها جمع غفير من أهل المدينة. جلست العوائل الخمس في الصف الأمامي وكلهم في قمة من التوتر النفسي لسماع النتيجة. أهذا ابني أم رجل غريب عني؟ حضر الطبيب أخيرا وتلا عليهم نتيجة الفحص. قال النتيجة تقول إن 98 في المائة من الدلائل تؤكد أن هذا الفتى من صلب العائلة «كذا». وتفجر الاجتماع بين من يهلل ويهجم على الشاب ويغمره بالقبل والأحضان والشم، وبين العوائل الأربع الباقية التي غرقت في شجونها وحسراتها. لم أتمالك أمام هذا المشهد غير أن أذرف الدموع من عيني. فما أقسى على المرء من أن يواجه الفرحة والبشرى محاطة بالحسرة والخيبة.
مشاركة :