التغييرات الهائلة على النظام النقدي الدولي «1من 3»

  • 12/11/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

طرأت تغييرات هائلة على النظام النقدي الدولي خلال العقود السبعة الماضية، وتمكن صندوق النقد الدولي من التكيف معها، عندما اجتمعت الوفود القادمة من 44 دولة منذ 70 عاما لحضور المؤتمر النقدي والمالي للدول المتحدة في بريتون وودز في ولاية نيوهامبشير، كان الهدف هو تصميم نظام نقدي دولي جديد بغرض تصحيح الفوضى الاقتصادية في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حالات التضخم المفرط والانكماش المرهق في عشرينيات القرن الماضي، وتداعي قاعدة الذهب، وفترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. وكان التحدي الذي واجه خبراء النقد والمالية هو استحداث نظام يتيح للبلدان تصحيح اختلالاتها الخارجية دون اللجوء إلى التخفيضات التنافسية في سعر الصرف المثبط والسياسات التجارية التقييدية التي كانت تستخدم خلال الفترة بين الحربين العالميتين، فقد كان من اللازم توزيع أعباء التصحيح على نحو عادل بين بلدان الفائض والعجز، وتوفير سيولة عالمية كافية بهدف تعزيز نمو التجارة والدخول على مستوى العالم. واستنادا إلى جهود تمهيدية ضخمة "قام بأغلبها جون مينارد كينز من الخزانة البريطانية وهاري ديكستر وايت من الخزانة الأمريكية"، أنجزت الوفود خطوة استثنائية حيث استطاعت الاتفاق على النظام النقدي في فترة ما بعد الحرب خلال ثلاثة أسابيع فقط. وفي ختام المؤتمر، أشار هنري مورجنتاو الابن، وزير الخزانة الأمريكي إلى أنه رغم أن أعمال المؤتمر قد تبدو غامضة بالنسبة للجمهور، إلا أن النظام الجديد مرتبط "بأساسيات وواقع الحياة اليومية" وقال إن ما تم تحقيقه في بريتون وودز كان "خطوة مبدئية ستتيح للدول مساعدة بعضها بعضا في تحقيق التنمية الاقتصادية على نحو يحقق المنفعة المتبادلة والثراء للجميع". وكانت الركيزة الأساسية التي قام عليها النظام الجديد الذي أطلق عليه اسم نظام بريتون وودز وضع أسعار تعادل ثابتة لكن قابلة للتعديل لمختلف العملات مقابل الدولار الأمريكي الذي تحدد قيمته بالذهب. وتم إنشاء صندوق النقد الدولي للمساعدة في إدارة هذا النظام. وكانت اتفاقية تأسيس الصندوق التي تم التفاوض بشأنها خلال المؤتمر "حيث قدمت بلدان عديدة مشاركات قيمة" انعكاسا واضحا للقوى التفاوضية النسبية لأهم البلدان الأعضاء في الصندوق. فقد عارضت الولايات المتحدة التي توقعت أنها ستكون بلد الفائض الأول في المستقبل القريب، دعوة كينز لإنشاء "اتحاد مقاصة دولي" فهذا الاتحاد كان سيطبق عقوبات على بلدان الفائض الكبير وبلدان العجز الكبير على حد سواء، وكان يمكن الاستعانة به في تنظيم السيولة العالمية نظرا لأنه كان يقوم على عملة حساب صورية "البانكور" لكن على الأقل فرض النظام الجديد قيودا على البلدان التي كانت تسعى إلى تحقيق مزايا تجارية غير عادلة. ولم يسمح بخفض قيمة العملة إلا في حالات "الاختلال الأساسي" بينما كان يتوقع أن تلتزم البلدان التي تواجه عجزا مؤقتا في موازين مدفوعاتها، بتطبيق سعر التعادل مع إتاحة فرصة الاقتراض من صندوق النقد الدولي ""عمليات الشراء" بلغة الصندوق" لمساعدتها على التغلب على هذا العجز. كانت بداية صندوق النقد الدولي الرسمية في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1945 وكان عدد أعضائه آنذاك 30 عضوا بينما كانت البلدان الأخرى بصدد إقرار القوانين المحلية اللازمة. وارتفع عدد الأعضاء إلى 40 عضوا مع بداية العمليات في الأول من آذار (مارس) عام 1947 ثم اتسعت بعدها عضوية الصندوق اتساعا كبيرا بدءا من البلدان الأوروبية التي دمرتها الحروب ودول المحور المتحاربة السابقة، وتلاها عديد من الاقتصادات النامية التي كانت قد حصلت على استقلاليتها في الآونة الأخيرة، وانتهاء بجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان أوروبا الوسطى والشرقية في تسعينات القرن الـ20. وفي منتصف ستينيات القرن الماضي، بدأت الضغوط تواجه نظام بريتون وودز بسبب حالات العجز المستمرة في ميزان المدفوعات الأمريكي التي تحول على أثرها نقص الدولار في أعقاب الحرب إلى تخمة دولارات. وفي ظل تثبيت قيمة الدولار مقابل الذهب، كانت المشكلة الرئيسة من منظور الولايات المتحدة تكمن في وضع بلدان الفائض على مسار التصحيح "ألمانيا واليابان أساسا، في ذلك الوقت". وبالنسبة لبقية العالم، كانت الأزمة تكمن في أن العجز الأمريكي هو مصدر السيولة النظامية، لكن تزايد حجم الدولارات في خزائن البنوك المركزية الأجنبية أدى إلى زعزعة الثقة بقدرة الولايات المتحدة على توفير غطاء من الذهب لهذه الدولارات. وكان الحل الذي جاء به صندوق النقد الدولي هو حقوق السحب الخاصة وهي أصول احتياطية صورية "مماثلة إلى حد ما لعملة البانكور التي استحدثها كينز" من شأنها توفير السيولة دون الحاجة إلى عجز مقابل في بلدان عملات الاحتياطي. لكن هذا الحل كان غير كاف وجاء متأخرا جدا. وهكذا انهار نظام بريتون وودز رغم ما تم اتخاذه من تدابير يائسة لترقيع النظام من خلال خطوط تبادل النقد الأجنبي بين البنوك المركزية في ستينيات القرن الماضي ومحاولة يائسة أخيرة لإعادة مواءمة أسعار العملات بموجب اتفاقية سميثسونيان عام 1971 بعدما علقت الولايات المتحدة تحويل احتياطيات الدولار إلى ذهب. وفي ظل الاضطرابات الحادة الناتجة عن صدمات أسعار النفط في أواخر عامي 1973 و1974 كان من المستحيل إعادة تثبيت أسعار صرف العملات الرئيسة مقابل بعضها بعضا. وواجه صندوق النقد الدولي أزمة وجودية إثر انهيار نظام بريتون وودز. وظهرت تساؤلات غير مستغربة حول أهمية منظمة كان الغرض من وجودها إدارة نظام لم يعد موجودا بين ليلة وضحاها. وأصابت موظفي الصندوق حالة من اليأس دفعتهم إلى نشر رثاء ساخر عن مؤسستهم... يتبع.

مشاركة :