كم ذا يشابه شعور فقد أستاذك القريب إلى نفسك فقد والدك. انتابني حزن عميق حين نقل لي الصديق الدكتور عبد العزيز الرفاعي قبل أيام خبر وفاة أستاذي وأستاذ الأجيال الأديب الدكتور عبيد خيري رحمه الله، عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة الملك عبدالعزيز سابقا -جامعة طيبة حاليا- في مسقط رأسه (شمبات) إحدى ضواحي الخرطوم في السودان. عادت بي الذاكرة إلى ما يزيد على خمسة وعشرين عاما كنت طالبا في قسم اللغة الإنجليزية الذي يدرّس الدكتور عبيد عدداً من مواده. غرس خيري فينا مبكراً حب اللغة والأدب والشعر والثقافة، ورغم أنه كان يعلمنا الإنجليزية إلا أنه ظل وفيا للعربية ولطالما أمتعنا بنصوص عددٍ من شعرائها القدامى والمعاصرين وقد منحه ذلك التمكن في اللغات خبرة في مجال الأدب المقارن الذي قدم فيه عدداً من الدراسات. عرفنا في محاضراته الأدب الإنجليزي بشتى صنوفه، ووقفنا على أبرز أدبائه أمثال وليام شكسبير، جون كيتس ووليام ووردز وورث وآخرون، وكان شديد الالتصاق بمادته وطلابه واسع الإطلاع يهتم بكل شاردة ووارده وذلك مما دعاه إلى قراءة حتى ما يكتب خلف (ورقة التقويم) من شعر وحكم ومقولات، وكم شجعنا على القراءة وحفظ الأشعار. كانت محاضراته ماتعه يتخللها نكات تكسر طول المكوث في مقعد الدرس ولا تخرج عن روح الأدب والمعرفة، وتكشف مدى إلمام الرجل بالتراث العربي إلى جانب تخصصه الذي كان فيه بارعا مكنه من التدريس في أعرق الجامعات داخلياً وخارجياً، ولطالما حدثنا عن أستاذه العالم السوداني الموسوعي الراحل الدكتور عبدالله الطيب رحمه الله صاحب كتاب «المُرشد في فهم أشعار العرب وصناعتها» ومؤلفات أخرى وقد أحببت عبدالله الطيب لكثرة حديثه عنه واستشهاداته بشعره وتراثه الأدبي، وأتذكر أنني كنت أبحث عن مؤلفات الأخير ونتاجه العلمي في معارض الكتب ولدى دور النشر السودانية قبل أن يتيسر عبر قوقل عدد من مقالاته ومحاضراته في اليوتيوب. كان أستاذنا خيري يرحمه الله مثالا للأستاذ الجامعي الذي يدفع طلابه للبحث والتقصي عن المعلومة والذهاب للمكتبات، وقد امتدت علاقتي به خارج أسوار الجامعة، كنت ألتقيه في مكتبة الشروق التي لا تبعد عن منزله مسافة أمتار على شارع المساجد السبعة فيبادلني أطراف الحديث بتواضعٍ جم، وقد ترك بصمة لا تنمحي في وجدان من عرفه وقابله في قاعة الدرس أو خارجها، وقد قدم سلسلة مقالات بعنوان عبيديات تابعتها في نشرة رسالة جامعة طيبة، وخرجت لاحقا في كتاب حمل عنوان (العُبيديات) تضمنت جانبا من الطرائف والملح والنوادر التي انتخبها من عيون التراث العربي. شارك خيري المثقفين والأدباء همومهم واستقطبته المنابر والمنتديات الأدبية في طيبة الطيبة. وكان وفيا لهذه الأرض الطاهرة وقادة هذه البلاد وقدم في ذلك عددا من الدراسات. ردد خيري في أواخر أيامه بطيبة الطيبة قبل أن يعود لمسقط رأسه شمبات في السودان وكما نقل ذلك في كتابه (قراطيس من دفق اليراع وبعض أنفاس الترحال) الصادر عن نادي المدينة المنورة الأدبي : قرُبَ الرحيلُ إلى ديار الآخره فاجعلْ إلهي خيرَ عمري آخرهْ وارحم مبيتي في القبور ووحدتي وارحم عظامي حين تبقى ناخرهْ فأنا المسيكينُ الذي أيامه ولتْ بأوزارٍ غدت مُتواتره وقد تضمنت قراطيسه عددا واسعا من مقالاته والدراسات التي نشرها في دوريات سعودية محكمة وغيرها من المجلات الأدبية. تنّقل عبيد خيري في عدد من المواقع التعليمية في كلية البنات بالمدينة المنورة وكان رئيسا لقسم اللغة الإنجليزية بمعهد العلوم الإدارية بالمدينة المنورة، وأكاديمية التميز للتدريب الصحي ومستشارا في مجلة العقيق الأدبية الثقافية المحكّمة التي يصدرها النادي الأدبي بالمدينة المنورة باللغتين العربية والإنجليزية لا ينفك فيها جميعا عن روح العطاء والمعرفة. في ذاكرتي الكثير عن أستاذي القدير، ودعوني أخيرا استعير وصفه وهو يقدم إهداء كتابه «قراطيس من دفق اليراع وبعض أنفاس الترحال» لذويه، وأقول له إنك كنت «الأروع في فيض الذّاكرة». رحم الله الدكتور عبيد خيري وكل العزاء لأسرته الكريمة ومحبيه من طلاب الأدب والمعرفة في كل مكان. kdtwil@hotmail.com * إعلامي
مشاركة :