كنتُ في زيارة للعميد ريمون أده في باريس. كان الرئيس أمين الجميّل منفيا في العاصمة الفرنسية، وكذلك العماد ميشال عون الذي كان يعيش في ضاحية باريسية راقية (Haute Maison) بعدما أبعدته الوصاية السورية الحاكمة للبنان يومئذ إلى فرنسا. سألت العميد عن علاقته بالمنفيين الاثنين، الجميّل وعون، وهل يجتمع بهما أو ينسّق معهما، خاصة أن مصلحة لبنان العليا تقتضي تنسيق الزعماء اللبنانيين الثلاثة المقيمين خارج الوطن الأم، لإخراج سوريا من لبنان. انتفض العميد كعادته وأجاب حازما حاسما: هل تريدني أن ألتقي “فاشلا” (أمين الجميل) و”وصوليا” (ميشال عون)؟ وأضاف “الويل للبنانيين إذا وصل عون إلى الرئاسة في لبنان”! ضمير لبنان طبعا، أعداء العميد، وهم كثر، يعتبرونه “سليط اللسان” لا يسلم سياسي من “شرّه”. يهاجم كميل شمعون و”الجبهة اللبنانية” والنظام السوري و”أدواته” في لبنان، كما كان يسمّيهم. كان العميد على تنسيق واتصال مع الرئيس صائب سلام الذي كان يقيم في جنيف بسويسرا بعدما طوّق منزله في بيروت مسلّحون من الجيش السوري وعناصر من حركة فتح، إثر هجوم كلامي لسلام على الوجود العسكري السوري في لبنان، حيث وجّه انتقادات لاذعة لياسر عرفات ولحركة فتح. يومها طوّقوا دارته في المصيطبة ببيروت (وما أدراك ما هي دار المصيطبة ودورها تاريخيا!). فما كان من الرئيس سلام المعروف بجرأته، إلاّ مغادرة بيروت قاصدا باريس ثم جنيف، بعيدا عن “الأشرار”، وما كانوا يضمرون له من شرّ بغيض. نعود إلى “العميد العنيد” أو “ضمير لبنان” كما كان يُطلِق عليه مؤيدوه ومحبّوه من اللبنانيين. كان ريمون أدّه نظيف الكفّ لم يُسجّل عليه يوما أنه مدّ يده إلى المال العام مثله مثل الكثيرين من السياسيين من أبناء جيله، وخاصة الرئيس رشيد كرامي زعيم طرابلس الذي كان يحرص على المال العام إلى درجة اتهامه بـ”البخل والتقتير والتقشف”. اليوم، يتذكر اللبنانيون ويستذكرون بالخير شخصيات سياسية أعطت لبنان الكثير. كانت الشفافية في العمل السياسي هي معيار كبار القادة، خلافا لهذه الأيام حيث الطبقة السياسية كلها باتت متّهمة بالفساد وسرقة المال العام والسمسرة، وامتهان الصفقات مع امتهان السياسة بأسوأ مفاهيمها. يتذكّر اللبنانيون الرئيس فؤاد شهاب “أب الإصلاح” في لبنان. الرئيس المتقشف الذي يدخّن سيجارة البافرا اللبنانية الصنع، ويأكل مع زوجته صحنين فقط يوصي عليهما من أحد مطاعم جونيه. لا بهرجة رئاسية ولا سفر ولا مصاريف (أكسترا). جعل من لبنان واحة استقرار وبحبوحة. البحبوحة التي صنعها قبله، الرئيس كميل شمعون الذي مات وهو لا يملك سوى منزله في السعديات (قصر السعديات اشتراه الرئيس رفيق الحريري من دوري كميل شمعون). فؤاد شهاب أسّس مجلس الخدمة المدنية وكافة المؤسسات التي تراقب وتحاسب (خاصة ديوان المحاسبة) حيث تعرّف إلى “القاضي النزيه” إلياس سركيس. وما لبث أن استعان به مديرا عاما للقصر الجمهوري وصار أحد أقرب مستشاريه عندما كان فؤاد شهاب رئيسا للبلاد. ثم دعمه ليصل إلى موقع رئاسة الجمهورية. كان الشعار الذي يتبعه المسؤولون في لبنان هو “مال الدولة للدولة وليس للحاكمين في الدولة”، كما هو الحال عليه اليوم حيث سرقة المال العام للقادة ولرجال السلطة ولأزلامهم في التلزيمات والتعهدات والوظائف العشوائية… كل زعيم يستخدم مال الدولة ليصرف على أنصاره، وأفضل أسلوب، برأي الزعماء، هو توظيف “الأزلام” في الإدارة ولو كانوا لا يحضرون ولا يداومون… وإذا حضروا لا يفعلون شيئا سوى شرب القهوة والشاي. نظام قوي ودولة فاشلة في لبنان نظام قوي، هو النظام الطائفي حيث تحمي الطوائف زعماءها. تحمي الزعماء ولو سرقوا ونهبوا وعاثوا فسادا، وانتهكوا حرمة الإدارة اللبنانية. قال مسؤول سياسي كبير وعريق: لولا الطوائف التي تحمينا لكان “الثوار” من أهل الحراك المدني، قد “أخذونا” من بيوتنا ومقراتنا. هذا السياسي يعترف بقدرة الطوائف على حماية قادتها مهما فعل هؤلاء القادة من تجاوزات وارتكابات وسرقات. النظام القوي، كما يؤكد العارفون بالتركيبة اللبنانية العجائبية، بنى دولة فاشلة فاسدة مهترئة. نظام محاصصة وفساد. واستطاع أهل النظام، بالاتفاق مع حاكم مصرف لبنان، ومع المصارف (التي يملكونها أو يملكها جماعتهم) سرقة أموال المودعين (بعدما سرق السياسيون المال العام)، وتهريب المليارات من الدولارات إلى خارج لبنان، إلى درجة أن أحد المصارف السويسرية رفض استقبال حوالة مالية بقيمة 300 مليون دولار مرسلة من إحدى القيادات السياسية اللبنانية. وهذا المبلغ ليس وحده الذي تمّ رفضه، بل هناك مبالغ مالية كبيرة رفضتها مصارف سويسرية بعدما تمّ تحويل أكثر من خمسة مليارات دولار في وقت قياسي أي خلال أقل من شهر واحد إلى خارج لبنان بتواطؤ من المسؤولين اللبنانيين ومن إدارات المصارف نفسها. وهو ما زاد من حدّة الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية الراهنة في لبنان والتي تنذر بسقوط الوطن الصغير تماما وتحوّله إلى دولة، ليس فقط مُفْلِسة، بل غير آمنة وغير مستقرة يسودها قانون الغاب، لا قانون الدولة. الانهيار الكبير لم يعلّم أهل السياسة والحكم شيئا. بقوا أسرى مصالحهم ونزواتهم وأحقادهم. كأنهم من عالم آخر، أو من كوكب آخر. لا حكومة، لا دولة، لا رقابة، لا رعاية، لا شيء أبدا. وضع مُتَفَلِّت من أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية. أزمة حكم وحكومة، أزمة دولة مهترئة حيث النظام يجب أن يتغيّر، يجب أن يسقط أو على الأقل أن يغيّر أسلوبه إذا كان من الصعب إسقاطه (وهو أمر صعب فعلا). المطلوب وقف السرقات اليوم قبل الغد، لأن الواقع السياسي والاقتصادي لا يتحمّل أياما وأسابيع وسط “أزمة حكم” قاسية لم يعرفها لبنان مسبقا على وقع تظاهرات واحتجاجات يومية من اللبنانيين الذين يطالبون بالعمل والرغيف، ومكافحة الفساد ومحاكمة سارقي المال العام، وصولا إلى استرجاعه! الحراك المدني الحراك المدني اليوم في ذروته، والناس في قمة الغليان، يثورون دون هوادة على المسؤولين المتحكّمين بأحوالهم، وعلى ناهبي البلد وثوراته وقطاع مصرفي شجع على ذلك، لكن “الحراك” سجّل عدة نقاط انتصار. فرض استقالة حكومة الحريري، ثم نجح في إسقاط ثلاثة مرشحين لرئاسة الحكومة: محمد الصفدي، بهيج طبارة، ثم سمير الخطيب. صار لـ”الحراك” حق النقض (الفيتو) على اسم أي مرشح لرئاسة الحكومة لا يريده، ولا يثق به. صار قادرا على منع تشكيل حكومة لا يرضى عن أعضائها أو لا يثق بهم وبتاريخهم السياسي والاقتصادي. يريد “الحراك” حكومة تحمل رؤية اقتصادية تنتشل لبنان من السقوط النهائي والانهيار الشامل. حكومة تمنع السرقة والسمسرات والصفقات وتعمل على تطبيق القوانين بحذافيرها، كما كان يفعل الرئيس فؤاد شهاب. لقد استطاع الحراك المدني خلق رأي عام لبناني يندفع نحو التغيير الحقيقي، والعمل على تأسيس دولة عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق. دولة تحترم ناسها وشعبها، وحقهم في الحياة والعمل والحرية. فالثورة اليوم ليست في معظمها ثورة جياع، بل ثورة كرامة، ثورة ضد الفساد والإفساد. صراع أجيال جديدة تريد أن تحكم ولا تقبل أن يتحكم بها ساسة أثبتوا أنهم منذ ممارستهم السلطة خلال ثلاثين عاما، فشلوا في حماية شعب لبنان من الفقر والعوز والبطالة، بعدما تآمروا على الناس وسرقوا أموالهم ونهبوا كل ما استطاعوا الوصول إليه بكل وقاحة، وقهروا الشعب الذي حوّلوه إلى مجرّد أرقام. وهو شعب عظيم مبدع يستحق الحياة بكرامة وكِبَر. إن السياسيين اللبنانيين أنشأوا ناديا مُغْلَقا، فتحوّل إلى قفص اتهام، وربما يصبح سجنا لهؤلاء السياسيين الناهبين للمال العام، والذين صادروا أحلام اللبنانيين في بناء وطن العدالة والحق والحرية.
مشاركة :