صورة الغرب في خطاب رفاعة الطهطاوي

  • 5/20/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تبدو العلاقة بين العرب والغرب علاقة شديدة التعقيد والتشابك والتداخل عبر حركة التاريخ الإنساني، فقد اتخذت هذه العلاقة شكل الصراع كما حدث في الحروب الصليبية، وفي فتح المسلمين للقسطنطينية، والاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي في العصر الحديث. واتخذت شكل التعايش والحوار مثلما حدث في الأندلس، وفي إرسال العرب للبعثات إلى أوروبا لتلقي العلم منها، وقد رسخت أشكال الصراع والتعايش صوراً متباينة في نظرة كل طرف للآخر، وانحصرت هذه الصور ما بين الدعوة إلى ترسيخ الصراع والصدام، أو الدعوة للتعايش والحوار. فقد عاش معظم أرجاء العالم العربي تحت السيطرة العثمانية ابتداءً من القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين، في إطار دولة عثمانية تمتعت بقدر كبير من القوة العسكرية في بدايتها، ولكنها عاشت على المستوى الثقافي على شرح وتلخيص المنتج الثقافي لفترات ازدهار الحضارة الإسلامية، ولهذا وصفت فترة سيطرة الدولة العثمانية بأنها مرحلة (الشروح والتلخيصات). ومع مطلع القرن التاسع عشر بدأ الضعف يدب في أركان هذه الدولة، وبدأت أوروبا تطمع في أملاك (الرجل المريض) فجاءت الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801) لتكون إحدى المحاولات الأولى لسيطرة الغرب على العالم الإسلامي، حيث خلقت هذه الحملة وعياً جديداً لدى المصريين بحالة التدهور التي يعيشون فيها، وتجلى هذا واضحاً في المقابلة بين (البندقية/ السيف)، وفي وهج بارود البندقية خف صليل السيوف لينتهي عصر الفروسية، ويبدأ عصر القوة القاهرة، وقد تجلى ذلك واضحاً في وعي شخصيات مثل عبد الرحمن الجبرتي (1754 - 1822) والشيخ حسن العطار (1766 - 1834). وبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر استطاع محمد علي (1805 - 1848) أن يؤسس دولة مركزية حديثة في مصر منطلقاً في ذلك من تأسيس جيش قوي يمكن أن يحقق طموحاته التوسعية، ولهذا فقد أرسل البعثات إلى أوروبا في المجالات المعرفية التطبيقية (العملية) والتي يمكن أن تصب في قالب القوة العسكرية والاقتصادية المطلوبة للتوسع، وكانت أول بعثة عام 1826، وكان ضمن أعضائها الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873) الذي رشحه حسن العطار لهذه البعثة لكي يقوم على شؤونها الدينية، ولكنه حين ذهب أخذ على عاتقه مهمة تدوين أسباب النهضة الأوروبية، وتدوين ما رآه في فرنسا، من منطلق ضرورة التعلم من الغرب، وضرورة نقل هذه المكتسبات الحديثة إلى المصريين، وقد دون كل ذلك في كتابه (تخليص الإبريز) بل في معظم كتبه الأخرى. وكان رفاعة الطهطاوي ينظر إلى الغرب على أنه صاحب الحضارة والعلم والمعرفة، ولهذا ينبغي التعلم منه سواء في العلوم الحكمية، أو في نظمه السياسية والاجتماعية، كانت صورة الغرب المعلم هي الصورة السائدة في كتابات رفاعة الطهطاوي، ولكن: كيف تمثل رفاعة الطهطاوي صورة الغرب المعلم في خطابه؟ جاءت صورة الغرب في خطاب رفاعة الطهطاوي الإصلاحي ملتحمة باللغة التقليدية للتعليم الديني الذي تعلمه فهو يوظف لغة السياسة الشرعية لنقل المكتسبات الليبرالية الحديثة، فهو يرادف بين الشعب/الرعية، وبين القانون/الشريعة، وكثيراً ما نجد المصطلحات الفقهية بارزة في كتاباته مثل المباح/المحظور، الكفر/الإيمان، الهداية/الضلال، فقد تعامل رفاعة الطهطاوي مع المكتسب الليبرالي بلغة الفقيه وعالم الدين، وقد نلتمس له العذر لأنه من جيل الرواد. وقد ترتب على سيادة اللغة التقليدية لديه أن طبع فكره بالطابع المعياري -الأخلاقي والديني- ولم تخرج رؤيته للغرب عن تلك النظرة المعيارية، فحين يتحدث عن أمريكا قبل اكتشافها يقول (وأما أمريكا فهي بلاد الكفر)، وحين يتحدث عن العلم في الغرب فيقول (ولهم في العلم حشوات ضلالية)، ويقول عن موقف الفرنسيين من القضاء والقدر (ومن عقائدهم الشنيعة إنكار القضاء والقدر). فالطهطاوي نظر إلى الغرب في سياق معياري أخلاقي فرضته العقيدة الأشعرية التي ينتمي إليها، تلك العقيدة التي تعطي الأولوية للنقل على العقل، فنجده ينتقد الفرنسيين فيقول: (إن الفرنساوية من الفرق التي تأخذ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً)، ويتجاهل الطهطاوي أن المعتزلة في تراثنا الإسلامي من الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل، وأن معتقدات الفرنسيين هذه نتاج تقديسهم للعقل، وهو كان يخشى أن اعتقاد هذه العقيدة قد يؤدي إلى إزاحة الدين وإلى الإلحاد، فإنه يرى أن أكثر أهل باريس إنما لهم في دين النصرانية الاسم فقط، ولا غيرة لهم عليه، فرغم إعجاب الطهطاوي بالغرب ممثلاً في فرنسا إلا أنه يواري بعض المميزات الكبرى مثل انتشار العقلانية في فرنسا، وذلك لصالح انتمائه الأشعري في العقيدة، فيقول عن أحكامهم القانونية (إن أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية، وإنما هي مأخوذة من قوانين أخرى أغلبها سياسي، وهي مخالفة بالكلية للشرائع). إن الطهطاوي كان متأرجحاً في رؤيته للغرب بين الإعجاب والنقض، بين ضرورة التعلم والنقد، فالطهطاوي الذي ينتقد القوانين الوضعية هو نفسه الذي قام بترجمة بعض مواد الدستور الفرنسي في (تخليص الإبريز)، كما قام بترجمة أجزاء من أعمال روسو، فولتير، ومونتسكيو، ليستبين لنا أن التقدم الواضح في فرنسا جاء نتاجاً لنظم حكم تقيد سلطة الحاكم، وتحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال عقد اجتماعي، وقد حاول الطهطاوي أن يخرج من حالة الازدواجية هذه من خلال اعتماد آلية القياس والمماثلة بين الوافد والموروث، والتقليدي والحداثي أو توظيف آلية التأويل، وذلك (لأنه قد تقتضي الأوضاع الشرعية المتأدب بها في المملكة عين المنفعة السياسية إلا بتأويلات للتطبيق على الشريعة). وتتضح آلية القياس في كل رؤية الطهطاوي للغرب، فحين يدعو إلى تأصيل العلوم الحكمية أو المدنية، يبرر ضرورة ذلك من منطلق تخلفنا فيها (فالبلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية والعمل بها، وفي العلوم العقلية، وأهملت العلوم الحكمية بجملتها، فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه)، ويبرر أهمية العلم في السياق التقليدي في حث الإسلام على العلم، من خلال الاستشهاد بالكتاب والسنة. وقد نظر الطهطاوي إلى القيم السياسية الغربية مثل الحرية، والمواطنة، والمساواة.. وهو يحاول مماثلتها بالنسق التقليدي الإسلامي (فإن ما يسمونه عندهم بالحرية، ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليها عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام القانونية، بحيث لا يجور حاكم على إنسان بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة). ويماثل الطهطاوي كذلك بين قواعد علم أصول الفقه وطريقة الغربيين في استنباط الأحكام القانونية، وأن (ما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى ما يشبه عندهم بالحقوق الطبيعية، وهى عبارة عن قواعد عقلية، تحسيناً وتقبيحاً يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما أسميه الفروع الفقهية يسمى عندهم بالحقوق المدنية). ولأن رفاعة الطهطاوي كان من جيل الرواد الأوائل لم يكن ليتخلى عن ثقافته التقليدية، وكان من الضروري وهو يدعو إلى صورة الغرب المتقدمة في العلوم والنظم أن يقابل هذه الصورة بما يماثلها في ثقافته التقليدية التي تربى عليها، فلم يكن رفاعة الطهطاوي بحكم انتمائه الأزهري، وبحكم اللحظة التاريخية؛ يستطيع أن يدعو إلى التماهي مع ثقافة الغرب في كل شيء، ولكنه كان ينظر إلى الغرب الحضارة والمعرفة على أنه كيان ينبغي التعلم منه، والتعايش معه؛ لأنهم أنفسهم قد سبق أن نقلوا عنا، ولم تكن صورة الغرب المستعمر واردة بقوة في خطاب رفاعة الطهطاوي لأن ذلك الوجه للغرب لم يظهر في فترة ازدهاره الفكري. ورغم عدم ورود أي نقد عند رفاعة الطهطاوي للاستشراق في كتابه (تخليص الإبريز)، فقد اهتم المستشرقون بكتاب رفاعة الطهطاوي عن باريس، وراجع بعضهم مسودة كتابه (تخليص الإبريز)، ومنهم المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسي الذي قرأ كتاب رفاعة الطهطاوي، وأشاد به؛ لأن الكتاب ينقل صورة إيجابية عن فرنسا والغرب، ولكنه انتقد الكتاب في أنه يحمل بعضاً من الأوهام الإسلامية، وطعنه في افتقار نساء باريس للحياء، وحكمه على أهل فرنسا بما رآه في باريس فقط، فيقول دي ساسي عن الكتاب (إنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأنه منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهماً صحيحاً عوائدنا وأمورنا الدينية، والسياسية، والعلمية، ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية، غير أنه حكم على سائر أهل فرنسا بما لا يحكم به إلا على أهل باريس والمدن الكبيرة، ولكن هذه نتيجة متولدة ضرورة من حالته التي هو عليها حيث لم يطلع على غير أهل باريس، وبعض المدن). لقد وجد دي ساسي في الطهطاوي أحد الشخصيات التي يمكن أن تخدم أهدافه في تقديم صورة إيجابية لتفوق الحضارة الغربية فأشاد بالكتاب، واعتبر اعتزازه بإسلامه وتراثه مجرد أوهام إسلامية، فقد كان سلفستر دي ساسي أحد المستشرقين الفرنسيين الكبار الذي يخدم أغراض وطنه الاستعمارية، حيث (كان يشغل من 1805 منصب المستشرق المقيم بوزارة الخارجية الفرنسية، وكان عمله ينحصر في البداية في ترجمة نشرات الجيش الفرنسي، وعندما احتل الفرنسيون مدينة الجزائر عام 1830 كان دي ساسي هو من ترجم الإعلان العام للجزائريين، وكان وزير الخارجية يستشيره بانتظام في جميع الشؤون الدبلوماسية المتعلقة بالشرق). ورأى مستشرق آخر وهو كوسين دي برس فال في عمل الطهطاوي ميزة كبرى أنه يظهر التقدم الأوروبي، ويعكس في نفس الوقت التخلف الشرقي، ذلك الهدف الذي كان يسعى المستشرقون إلى تأصيله في بلاد الإسلام، فيقول برس فال إن الطهطاوي (أهدى -لأهل وطنه- نبذات صحيحة عن فنون فرنسا، وعوائدها، وأخلاق أهلها، وسياسة دولتها، ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية، والفنون النافعة أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعرفة المفيدة، ويولد عندهم محبة التمدن الإفرنجي والترقي في مصانع المعاش). وكان الطهطاوي متألماً من كلام دي ساسي من أن الكتاب يحمل بعض الأوهام الإسلامية، وأشار على برس فال بما قاله دي ساسي فأجابه بأنه لا يرى ذلك مضراً، لأنك كتبت ما هو في اعتقادك، ولو تتبعت ما قاله الإفرنج، ووافقت آراءهم للحياء أو غيره لكان ذلك محض موالسة. ومن الملاحظ أن الطهطاوي الذي ينقل عن الغرب المعلم لم يكن ليتخلى عن شخصيته الحضارية، ويوافق على كل عوائدهم، ولكن المفيد في الأمر هو قراءة المستشرقين لأهمية عمل رفاعة الطهطاوي عن فرنسا، ودوره في تقديم هدف خفي لهم في إبراز التقدم الأوروبي، وبالمقابل إظهار التخلف في بلاد الإسلام، فهذا هدف وسياسة كان يسعى إليها المستشرقون.

مشاركة :