قال أبو عبدالرحمن: من مبادئ النظرية السياسية العامة الإيمان بأن قوة الاشتراع تحفظ المساواة. فهذه فلسفة ألفاظ لا فلسفة معان؛ فكلمة (قوة) اسم علاقة لا تعني شيئاً إلا بالمقارنة بين شيئين أحدهما غير معقول، وثانيهما أقل قوةً من الأول، و(الاشتراع) اسم حدث يقتضي الإمعان في إبعاد شرع باطل، أو فرض شرع هو الحق، و(المساواة) اسم علاقة اتخذ شعاراً.. ولا معنى للمساواة في القانون إلا بعد وجود التساوي في الواقع كاتحاد العمل أو المواهب والكفاءات؛ فالمضمون الفكري الذي تتصف به المساواة هو الحكم العلمي البرهاني على أن هذه المساواة عدل، وتلك المساواة ظلم.. ومن المبادئ مراعاة العلاقات التي تنشأ من الوضع الـمحلي، ولا معقول في هذه الـمراعاة إلا باشتراط الوحدة المركزية سياسةً ونظاماً ودستوراً؛ وليس هذا الـمبدأ الفطري الضروري من بركات الفلسفة السياسية القانونية الإكراهية التي مصدرها من الذين تعلمونهم من صناعها في الظلام، بل هذا المبدأ الفطري هو لب اللب في شرع الله.. ومهمة ولاة الأمر أن يكشفوا مراد الله بوسائل الاجتهاد المشروعة علماً وفكراً، وأن يطبقوه في مختلف الأوضاع.. ولقد عقد ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابه: (إعلام الموقعين) عن شرعنا الـمطهر فصلاً كريهاً من جهة عنوانه عن اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان! والحق أنه لا أثر لتغير الزمان والمكان والوقائع؛ وإنما أراد ثبات الأحكام فأخطأ التعبير؛ وذلك أن المبادئ ثابتة في منطوق الشرع، وإنما المراد تطبيق المبدأ المطابق على الواقعة المستجدة.. وهذا الفصل منبه ذا العلم والفكر أن يتحرى مراد الله بسبر ضرورات النصوص، وكليات الشريعة ومقاصدها -وكلها ضمانة لمصالح العباد في دنياهم، وضمانةً لسلامتهم وفوزهم في أخراهم- في معالجة الوقائع التي لم يسمها الشرع باسمها؛ فليس كل ما سكت عنه الشرع (وهو عفو بلا ريب) على الإباحة المطلقة، وإنما هو على الإباحة للعقل أن يجتهد في حكم الواقعة متحرياً ما أسلفته؛ فكما أن العقل مـحرم عليه أن يقفو ما ليس له به علم فهو كذلك مأمور بالنظر فيما يوصله إلى علم في دائرة التحري الذي أسلفته؛ حتى لا يجحد ما له به علم؛ إذن إباحة اجتهاد العقل فيما لم يرد به نص مأمور به شرعاً وعقلاً؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيما فيه نص صحيح صريح، ويصحب هذه الإباحة الأمر بأن يكون الاجتهاد تحرياً لمراد الله من ضرورات الشريعة ومقاصدها وكلياتها.. ولا إبداع فيما تضمنه الفصل الذي عقده ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى مع بطلان عنوانه (عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان)؛ لأن الحكم ثابت غير متغير؛ فلكل حالة حكمها؛ وإنما الصحيح في هذا الفصل من بركات علماء أصول الفقه (وأكثرهم إيضاحاً لهذا الإمام ابن حزم)؛ فقد اتفقوا على أن الأحكام محصورة والوقائع غير متناهية؛ فأحكام الله الشرعية، ومعايير القيم ثابتة؛ وإنما التعدد في حدوث الوقائع وتطورها، والوقائع محل تطبيق الحكم؛ فلم يتغير الحكم بتغير الوقائع، ولم تتغير الفتوى مع تغير الزمان.. إلا أن الوقائع منها ما هو موجود لم يتعرض له النص باسمه، ولم يـحن وقت لحاجة الفتوى فيها كمسألة العول في الفرائض؛ فلما حان الوقت فيها استفتى الخليفة الراشد الـملهم عمر بن الخطاب الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً؛ فأمضى الفتوى بما ألهمه الله إياه من الحكم العادل الذي استنبطه من ضرورة النص؛ فأعال الإرث الذي لا يفي بالأنصباء المحددة شرعاً إلى عدد يتحقق به إعطاء النصيب الـمسمى كإعطاء كل وارث ما سمي له من إرث، ويكون النقص مشتركاً بالعدل؛ فما ينقص من صاحب النصف مثلاً أكثر مما ينقص من صاحب الثلث.. مثال ذلك إرث فيه نصف للزوج، وسدس للأم، وثلثان لشقيقتين؛ فلا يتسع الإرث لثلثين ونصف وسدس؛ فمضى نظر عمر وزيد بن ثابت وعلي مع ارتفاع الخلاف من بقية الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، ومضى على ذلك جمهور الفقهاء، وسكت ابن عباس رضي الله عنهما هيبةً منه لعمر.. مضت الفتوى على جعل المال أربعة وعشرين سهماً؛ فلصاحب النصف (9)، ولصاحب الثلثين (12)، ولصاحب السدس (3)؛ فصار لكل واحد المسمى له وإن نقص لو جعلت الأسهم ستة فقط؛ لأن صاحب الثلثين سيأخذ (4)، وصاحب النصف لن يبقى له كامل حقه وهو (3)، وصاحب السدس لن يبقى له شيء؛ فضرورة الاستنباط من النص اقتضت هذا العول العادل بإمضاء خليفة راشد، وفقه كبار الصحابة، وانقطع الخلاف من بقيتهم رضي الله عنهم؛ فلا التفات بعد ذلك لخلاف ابن حزم أو غيره رحمهم الله تعالى، وتذرعهم بحط من هو أولى بالحطيطة كالقول بأن الزوج يهبط من النصف إلى الربع في موضع آخر دخل معه وارث يزاحمه، وهكذا القول بأن ابن عباس رضي الله عنهما دعا له رسول الله أن يفقهه في الدين. قال أبو عبدالرحمن: أما الدعوى الأولى فلم يبخس الله الزوج حقه، بل فرض له النصف في موضع لم تعل فيه الفرائض، وفرض له الربع في موضع لم تعل فيه الفرائض أيضاً؛ وهذا خلاف في غير محل النزاع الذي هو عول الفرائض؛ فلا تجوز الحطيطة المزعومة على واحد دون غيره بالدعوى؛ بل تكون الحطيطة مشتركة بالعدل؛ فتكون الحطيطة من ذي الثلثين أكثر من الحطيطة من ذي السدس.. وأما الدعوى الثانية فلا تعني أن ابن عباس أفقه من عمر وعلي رضي الله عنهم، ولم يدع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يكون أفقه الناس، بل دعا له بالفقه في الدين - وهو صغير السن بين الصحابة -؛ ليلحق بكبارهم في الفقه وعلم التأويل.. وإذا تأملت ما أمضاه الله من حكم عمر رضي الله عنه في العول وجدته قائماً على توجيهات شرعية مضمون بها الاهتداء إلى مراد الله؛ فأول توجيه هو الإيمان بعلم الله أن ثلثين ونصفاً وسدساً لا يتم إعطاؤها على الكمال (وما كان ربك نسيا) (سورة مريم/64)، وثانيها أن الله لم يخل عباده من راسخين في العلم يمتحن الله برسوخهم درجات العلماء في الفقه في الدين؛ وهذه رفعة في تبجيل الأمة لهم كالإفساح في المجلس.. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) (سورة المجادلة/ 11)، ومنها رفعة في الإيمان تحدث رفعة في العلم والتقوى والخشية إضافةً إلى الآية السابقة.. قال تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله) (سورة البقرة/282)، وقال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (سورة فاطر/28)، وأهل الإيمان علمهم مـحقق بالبرهان.. قال تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين) (سورة البقرة/26).. وقال تعالى عن رفعة طالوت: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) (سورة البقرة/247)، وفي سورة يوسف الرفعة بالعلم مع تفاوت الدرجات في معرض ما قص الله عن يوسف عليه السلام.. قال تعالى: (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) (سورة يوسف/76)، وجعلهم مرجعاً للأمة وقدوة؛ فقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (سورة العنكبوت/43)، وقال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) (سورة النساء/83)، وقال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (سورة النحل/43)؛ فكلمة (لا تعلمون) تقتضي أهل العلم بالذكر لا مجرد حفظته من غير علم بدلالته، والله طالب بالبرهان، ولا علم إلا ببرهان، وأهل العلم بالبراهين هم العلماء الذين تفزع إليهم الأمة بعد الله تعالى؛ فهم علموا عن براهين رسخت إيمانهم كما في قوله تعالى: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب) (سورة الرعد/19).. والمتميزون في العلم هم الشهداء على الحق.. قال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (سورة آل عمران/18)، وقال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) (سورة آل عمران/7). وثالث الوجوه: الإيمان بأن الله لا يأمر بمحال؛ فلما وجدوا أن الإرث لا يحتمل ثلثين ونصفاً وسدساً: رجعوا إلى وصية ربهم بأمرين: أولهما: الرد إلى الله ورسوله بحضور ذوي العلم كما في قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) (سورة النساء/59)، وقوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) (سورة النساء/83). وثانيهما: رفع الحرج بوصية رسول الله في قوله تعالى: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»؛ فبالله ثم بإيمانهم علموا أن في أمر الله إياهم في الإرث -وهو من أفعال المكلفين- ما هو مستطاع؛ فحرصوا على تحقيق الاسم كالثلثين مثلاً، وحرصوا على المستطاع من العدل كما أمرهم الله به في قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا) (سورة النساء/58)؛ فأعملوا دقة الاستنباط؛ فأعالوا الفريضة ليتحقق المسمى من ثلثين ونصف وسدس، وحققوا العدل بأن يكون النقص عاماً الجميع، وبمقدار ما يتحمله نصيب كل واحد فلم ينقص من صاحب السدس أكثر من نصيب صاحب الثلثين.. ولو ألغوا حق صاحب السدس كله: لبقيت الفريضة عائلة، ولكان ذلك ظلماً لصاحب السدس.. وهكذا لو نقصوا صاحب النصف وحده حق صاحبة السدس فلا يبقى له إلا الثلث؛ فيزول العول ويبقى أنه المظلوم وحده.. وهكذا لو هضموا صاحب الثلثين سدساً فإنه يبقى العول والظلم معاً، ولو ألغوا صاحب النصف وحده، أو صاحبات الثلثين وحدهن لبقي في الإرث بقية مع الظلم لمن أسقط حقه؛ فحققوا مراد الله بإعطاء كل وارث حقه الـمسمى، وحققوا من العدل ما لا سبيل إلى استطاعته إلا بتلك الصورة، وهذه من المسائل التي امتحن الله بها درجات ذوي العلم والميزة في الفقه في الدين.. ومن الوقائع الموجودة ولم تمس الحاجة إليها في عهد الصحابة رضي الله عنهم تحديد مواقيت الصلوات والصيام في جهات نائية لا يتعدى الليل في بعضها ساعتين؛ فهذا متروك لاجتهاد العلماء الذين وفقهم الله إلى ضبط المواقيت على مواقيت أم القرى مركز الأرض.. واستجدت وقائع من فعل البشر كالحقنة للصائم؛ فهذه فيها سعة للاجتهاد بلا حرج إذا ميزت الحـقنة الـمغذية؛ لأنها تنافي حقيقة الصيام في ماهية الجوع والظمأ.. ومنها ما يقتضي التورع، ومراعاة فطرة الله والاحتساب كزراعة الأعضاء من ميؤوس من حياته، والتبرع من الحي ببعض أعضائه -وأقبح ما في ذلك بيعها-؛ فمهما كانت الجرأة في الفتوى فيجب أن يصحبها النص على أن الصبر والاحتساب والحفاظ على فطرة الله أولى.. ومنها ما يحرم على المسلم إباحته من وقائع من إحداث البشر كأطفال الجينات؛ فهذا ضد الفطرة، وضد الغريزة الكريمة في مشروعية نكاح الزوجية الطاهر، فيرضى بقضاء الله تعالى، ولن يموت إلا بأجله. قال أبو عبدالرحمن: ومن مبادئ النظرية السياسية التوافق بين العلاقات الطبيعية والقانون، وهذا والله حق، ولكننا لا نضمن إحقاق هذا الحق إلا إذا ضمنا أن القانون تنزيل من خالق الطبيعة وعلاقاتها؛ لأن الخلق من قدرة الله القادر جل جلاله، والشرع إنباء عن علمه وعدله وحكمته فيما خلقه بقدرته؛ وقد بينت في موضع آخر من بحوثي أن الظاهر الذي لا يحل خلافه هو ما حصل به اليقين أو الرجحان على أن الشرع أراده –وهكذا كل النصوص غير الشرعية؛ فالـمعتد به هو مراد قائل النص– بشرط أن يكون هذا الذي صح لنا يقيناً أو رجحاناً وارداً بمعنىً صحيح في اللغة، وليس من الشرط أن يكون هو الأرجح في اللغة؛ لأن الـمعتد به مراد المتكلم، وليس الاعتداد بالأرجح من احتمالات اللغة؛ لأن مراد الـمتـكلم أخص من المعاني الصحيحة المحتمل إرادة أحدها إلا أن يقوم دليل على أنها مرادة كلها، أو بعضها أو أحدها؛ ولا يكون ذلك إلا بارتفاع التناقض عن دعوى إراداتها كلها، أو إرادة بعضها، وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله، والله المستعان.
مشاركة :