لفت نظري في تحليل نشرته مجلة الدماغ والعقل عن تاريخ اشتغال البشر بأبحاث متصلة بوظائف دماغ الإنسان وتطوراتها، وكانت الحقب التي تناولها الاستعراض ممتدة لأكثر من 4500 سنة، بدءاً من 2500 ق. م. إلى 2013م. ونظراً لطول الفترات الزمنية واختلاف طبيعة كل حقبة، فإن تناول هذا الموضوع سيكون في جزءين؛ يُعنى الأول بالحقبة القديمة، والثاني ببداية الحقبة التجريبية. وكثير من الناس يظن أن الحضارات القديمة لم تُعن بهذه القضية بحثاً وتحليلاً، أو ممارسة وتشريحاً. لكن المدونات التاريخية بشأن محاولات التدخل الطبية والمعرفية في الدماغ أثبتت أن اليونانيين في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد كانوا قد أجروا أول محاولة لعلاج بعض الحالات بواسطة ما يسمى Trepan، وهو منشار صغير اسطواني الشكل لثقب عظم الجمجمة، وإجراء عمليات عاجلة في الدماغ. وفي مطلع القرن الرابع قبل الميلاد كان الطبيب اليوناني الشهير إبوقراط قد أوضح أن الدماغ هو مركز كل التجارب التي يعيشها الكائن الحي، ومصدر قدراته التي يختلف بها عن كائنات أخرى، أو يختلف بها أفراد من البشر عن آخرين من الفصيلة نفسها، في الذكاء أو تحليل البيئة المحيطة وإمكاناتهم في التعايش معها. وفي أواخر القرن الثاني قبل الميلاد (تحديداً في 170 ق. م.) أنشأ الطبيب اليوناني جالين المنتمي إلى Pergamon (طبعاً كانت شهرته بالنهاية اللاتينية: جالينوس) نظرية «الروح الحيوانية»، بما يشبه الأثير المتواجد في منطقة الدماغ، وهي التي تقوم بتنظيم انتقال المشاعر. وقد استمرت صلاحية هذه النظرية لأكثر من ألف سنة في مجال الطب والبحث في شؤون الدماغ ووظائفه. لماذا أخذ العرب والعلماء المسلمون هذه النظرية بوصفها من المسلّمات التي لم يكن أحد منهم يريد بحثها، أو فحص صحتها؟ فكانت بعض المؤلفات العربية أو المترجمة عن اليونانية أو السريانية تكرر تلك المقولات غير العلمية، فتقسم الإنسان إلى جسد وروح، وتجعل مقر الروح في الرأس (أو الدماغ على وجه الخصوص)، كما أوهم الأمم القديمة ذلك الطبيب اليوناني. والغريب أن العرب وبقية الأمم التي خلفتهم في الحضارة الإسلامية لم يتعرضوا أبداً لتلك الأبحاث والنظريات، بالرغم من اشتغالهم في الطب وفي بعض العلوم الجديدة كالكيمياء وبعض علوم الطبيعة. فلم تعد الحضارة البشرية إلى الاشتغال بالموضوع إلا بعد أكثر من سبعة عشر قرناً من الانقطاع؛ حيث نشر عالم التشريح أندرياس فيساليوس سنة 1543م كتاباً مهماً في التشريح، وفيه رسومات تفصيلية عن الدماغ. وبذلك أقصى نهائياً نظرية جالينوس، التي سيطرت على الفكر البشري طوال الفترة الكلاسيكية والقرون الوسطى. وبعد قرن من تلك العودة العلمية إلى بحث شؤون الدماغ، أصدر الفليسوف الفرنسي رينيه ديكارت سنة 1649م دراسته عن الدماغ، بأنه مثل القلب آلة معقدة؛ تتحكم في ردود الأفعال والوظائف الحيوية. أما المشاعر والأحاسيس والأحداث الإرادية، فهي مرتبطة بالروح غير المادية. وقرب نهاية القرن الثامن عشر تعرّف الطبيب الإيطالي ليجي جالفاني سنة 1791م على أن وظيفة الأعصاب تقوم على أساس كهربائي. وكان قد اهتدى إلى هذه الطبيعة الكهربائية لوظائف الأعصاب من خلال تجربة هذا التيار على أفخاذ الضفادع، وقياس اهتزازاتها. وبعد أقل من عقد من السنوات في 1800م أسّس عالم التشريح الألماني فرانز يوسف جال علم دراسة الدماغ (Phrenology)، وفيه يُعنى بالخصائص الإدراكية للإنسان، من خلال استقصاء مراكز محددة في مناطق تشريحه المختلفة وبطرق تجريبية، ونتائجها قابلة للتحقق والتعميم، وهي ما نتناوله في الجزء الثاني من المقالة. أستاذ اللسانيات بجامعة الملك سعود
مشاركة :