بغض النظر عن المحتوى، تقوم جميع شبكات الأخبار التركية ببث خطابات الرئيس رجب طيب أردوغان على الهواء مباشرة. فهكذا تسير الأمور في تركيا هذه الأيام، ولكن في بعض الأحيان يمكن للمرء أن يتعلم أكثر مما لا يتم بثه، كما هو الحال عندما أعلن رئيس الوزراء وحليف أردوغان السابق أحمد داود أوغلو الأسبوع الماضي عن تشكيل حزب سياسي جديد في قاعة كبيرة بين مؤيديه. إذ لم تقم أي شبكة إخبارية بتغطية الحدث خوفاً من غضب الحكومة، وفقاً لما جاء بمقال أسلي أيدينتاسباس، المحلل السياسي والباحث بمركز المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست".التوازن لصالح قوى المعارضة يمثل داود أوغلو ثقلاً في الأوساط المحافظة، ويعد التحدي الذي يواجهه أمام أردوغان كبيرًا في زيادة التوازن لصالح قوى المعارضة التي تطالب بإنهاء الكابوس الاستبدادي في تركيا. ودعا داود أوغلو، في خطاب شديد اللهجة، إلى العودة إلى حكم القانون وإنهاء القمع واستعادة الضوابط والتوازنات البرلمانية، إذ إن "التدابير القمعية وغير القانونية تغلق قدرة العقل التركي"، مضيفا أن "أولئك الذين يفتقرون لحس العدالة لا يجب أن يشاركوا في صنع مستقبل أمتنا". وتتابع "واشنطن بوست" أنه خلال فترة عضويته بحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، لعب داود أوغلو دورا مؤثرا كمستشار السياسة الخارجية ووزير الخارجية، ثم تولى منصب رئيس الوزراء في نهاية المطاف. وحدث الخلاف بين داود أوغلو وأردوغان في عام 2016، حيث كان داود أوغلو، كأكاديمي، مدافعًا عن إعادة إحياء القوة التركية وصاغ سياسة "لا مشاكل مع الجيران". وساعد على الدخول في فترة من الإصلاحات محليا، بالإضافة إلى إحراز تقدم في ملف عضوية الاتحاد الأوروبي وإقامة علاقات إقليمية ودية خلال العقد الأول لحزب العدالة والتنمية في السلطة، تحديدا من 2002 إلى 2012.تغير المعادلات الانتخابية ويشير مقال أسلي أيدينتاسباس إلى أن المثقفين الليبراليين في تركيا ينتقدون داود أوغلو بسبب بقائه إلى جانب أردوغان لفترة طويلة، لكنهم لا يلتفتون إلى حقيقة أن تركيا ليست دولة تقتصر على الليبراليين الحضريين فقط، وإنما يعد العنصر الديموغرافي الرئيسي للتغيير السياسي المحافظون السنة، الذين لن يفكر كثير منهم في التصويت لصالح حزب المعارضة الرئيسي العلماني CHP أو الحزب الكردي HDP. ومما لا شك فيه أن رسالة داود أوغلو يتردد صداها في قلب الأناضول. ويضيف المقال أن هذه النقطة وحدها ربما تغير المعادلات الانتخابية في تركيا. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تمكن حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه أردوغان، من الحصول على نسبة تتجاوز 51% فقط للفوز في الانتخابات من خلال الدخول في ائتلاف مع أحزاب يمينية متشددة. وفي الوقت الحالي، لا يتخطى هذا المعدل حوالي 30%، حتى مع الدعم من شريكه في الائتلاف القومي MHP، يبدو أن حزب العدالة والتنمية أقل بعدة نقاط من نسبة 51%. وفي الصيف الماضي، فقد حزب العدالة والتنمية جميع المدن التركية الكبرى تقريبًا في الانتخابات البلدية. ومع وجود "حزب المستقبل" لداود أوغلو وحزب آخر متوقع إعلانه قريبًا، بقيادة وزير المالية السابق علي باباجان، يكون من الصعب تخيل استمرار أردوغان كرئيس مدى الحياة. ويوضح المقال أن هناك سوابق تاريخية، ففي عام 1908، أطاح ائتلاف واسع بقيادة الأتراك الصغار بحكم السلطان عبد الحميد الثاني، البالغ من العمر 32 عامًا، وهو الحاكم الذي يتم تشبيه أردوغان به. وفي عام 1950، حقق الحزب الديمقراطي انتصارا ساحقا كرد فعل على النظام القمعي لعصمت إينونو. وعاقب الناخبون الحكومة التي قامت بإعدام رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس بعد انقلاب عسكري، من خلال انتخاب حزب العدالة في انتخابات 1965. وتطول القائمة التي تضم الكثير من الأمثلة، إذ إنه يمكن للأتراك أن يتسامحوا مع سلطة الدولة القاسية في الأوقات الصعبة، لكنهم يتخذون رد فعل عقابي ضد الحكم الاستبدادي. وإن انحسار المد وتدفق القمع ثم المقاومة هي قصة قديمة يعود تاريخها إلى نحو قرن من الزمان – وسوف تقوم تركيا بالتكيف الذاتي مرة أخرى. ويتابع أسلي أيدينتاسباس: ولكن ليس من الواضح متى يمكن أن يحدث التصحيح الديمقراطي المقبل، فمن المقرر رسمياً أن يتم إجراء الانتخابات عام 2023، لكن يتوقع معظم السياسيين أن الأمر لن يستغرق وقتًا طويلاً. وفي الشهر المقبل، من المرجح أن يقوم باباجان، الذي أدار الاقتصاد التركي خلال سنوات ازدهاره، بإزاحة الستار عن برنامجه السياسي الذي يتوقع أن يكون أكثر ميلًا لليبرالية. ويشير أيدينتاسباس إلى أنه أجرى أحاديث مع أعضاء بارزين في حزبي باباجان وداود أوغلو خلال الأشهر القليلة الماضية، وأنه لاحظ أن مخاوفهم بشأن البلاد كانت متطابقة تقريبًا: تركيز الكثير من السلطات في يد أردوغان في ظل النظام الرئاسي الجديد، وتآكل المؤسسات الديمقراطية، والحالة المحزنة للقضاء وسوء إدارة الاقتصاد. "البلاد تغرق أمام أعيننا" وينقل أيدينتاسباس عن أحد الحلفاء السابقين لأردوغان قوله: "يمكنني أن أبقى بعيدا عن الأحداث مكتفيا بتأليف الكتب أو أن ألقي خطابات وأربح المال. لكن البلاد تغرق أمام أعيننا كل يوم، ولا يمكن أن ننتظر لفترة أطول". لكن توجد عوامل خارجية يمكن أن تطيل العمر الافتراضي للنظام الحالي، مثل القيام بمغامرة عسكرية في الخارج، كما أن كيفية تعامل واشنطن مع أنقرة ستعد من الأمور المهمة أيضا. ومن شأن إعادة انتخاب الرئيس دونالد ترمب في عام 2020 أن تؤدي إلى تمديد الهدوء الاستراتيجي، مما يسهل على أردوغان إدارة الاقتصاد التركي والتوترات الداخلية. كما أن فرض عقوبات على تركيا من جانب الكونغرس الأميركي، وهي الخطوات التي يجري الاستعداد للقيام بها، ستؤدي إلى حشد القوميين حول الرئيس التركي لمؤازرته. ويختم قائلا: إلا أنه من المرجح أن يكون تأثير كل هذه العوامل مؤقتا، حيث إن العديد من الأتراك، الذين تتزايد أعدادهم، يرغبون في استعادة ديمقراطيتهم. وتولى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا لفترات طويلة خلال السنوات الـ17 الماضية وفقد القدرة على التواصل مع الشارع التركي، لذا فإنه إما عاجلاً أو آجلاً سيأتي شخص آخر.
مشاركة :