مريم الزرعوني لسنا إلّا ورثة للتراكم الثقافي الذي تخلفه الإنسانية بانتهاء رحلة المبدع على هذه الأرض.فعندما رسم أحد رواد الحركة الانطباعية الفنان الفرنسي إدوارد مانيه لوحة «إعدام ماكسيميليان»، 1868، لم يكن أول فنان يرصد الواقعة، فقد سبقه الإسباني فرانثيسكو غويا، الذي عبر عن ذلك الإعدام في 1814 في لوحة بعنوان «الإعدام بالرصاص»، وأغدق عليها بتفاصيل المفاجأة والحسرة المكشوفة من خلال توظيف الضوء والتي تجلت في وجه الإمبراطور المكسيكي، بما سمح للمشاهد من ملاحظة من الغدر المختبئ في الظل.عزا مؤرخو الفنون سبب لوحة «إعدام ماكسيمليان» إلى تأثر مانيه بالفن الإسباني، ولا شك في ذلك، خاصة مع موجة اللوحات الإسبانية التي انتشرت في متاحف فرنسا خلال حملات الإمبراطور نابوليون بونابرت. ولكن ما الذي يجعل «لوحة الإعدام» تأثراً وليست شأناً يتعلّق بصميم الفن الفرنسي؟ بعودة سريعة لملابسات الأحداث المؤدية إلى الإعدام سنعرف أن الإمبراطور الفرنسي نابوليون الثالث هو من غرر بضابط البحرية النمساوية «ماكسيمليان»، وأوعز إليه بأن يعلن نفسه إمبراطوراً على المكسيك، وبعد حين سحب الإمبراطور القوات الفرنسية الداعمة له، مما أدى إلى انهيار حكومته، ليقرر الثوار المكسيكيون إعدامه.مانيه المعروف باستخدامه اللون الأسود بشكل ملحوظ وخاصة في دعم الألوان الأخرى، جعل منه سيّد الموقف في هذه اللوحة، حتى تكاد اللوحة أن تكون كلها بالأسود ولكن بدرجات مخففة، وجعل الأرضية قاحلة تحمل درجات اللون الكاكي في إشارة رمزية إلى جنود نابليون. وهي الأرضية التي اتكأ عليها ماكسيمليان. كما جعل أحد الوجوه الظاهرة -وهو أحد رفاق الإمبراطور المغدور- يبدو لامبالياً بفداحة الواقعة.بعد موت مانيه وجدت اللوحة مقطعة إلى أجزاء، قيل إن مانيه فعل بها هذا وقيل ابنه، وتم بيع كل قطعة على حدة.إلى أن يأتي دور الصديق الوفيّ إدغار ديغا، أحد الفنانين الانطباعيين وصديق مانيه المقرّب، الذي آلمه أن تضيع لوحة مهمة كهذه بين مقتني الفنون، وخاصة لو عرفنا أن جوهر الحركة الانطباعية هو التخلي عن رسم الحكايات والقصص بشكل تقريري تفصيلي والانتقال لمستوى أعمق يجعل الفنان ينقل انطباعه وتأثره بالحدث، لا الحدث ذاته. فقام ديغا بتقفي أجزاء اللوحة في المزادات والمجموعات الخاصة وشرائها.اجتهد ديغا في الحفاظ على فنّ صديقه لا سيما لوحة «ماكسيمليان»، وقضى آخر أيام عمره شبه أعمى، يمارس النحت بديلاً عن الرسم، لقد أنفق أمواله على اقتناء الفنون حتى بات لا يجد قوت يومه.الحيرة التي تنتابنك للحال التي وصل إليها منقذُ اللوحة، هي ذاتها حيرة ميشيل فوكو إزاء لوحة مانيه، حيث قال: «إنّي أعتقد أنّ ثمّة أشياء تبهرني وتحيّرني تماماً مثل مانيه، حيث عبر بقوة عن قبح عميق لايزال إلى اليوم يواصل العويل والصرير».
مشاركة :