ثمانية أيام من الإبهار والتشويق في قلب العاصمة أبوظبي، ودفق من الفعاليات العصرية والتراثية احتضنها مهرجان الحصن، الذي اختتمت نسخته الأولى بالأمس ضمن بيئة إبداعية، من خلال دورة جمعت التصاميم الحديثة وإبداعات الشباب وتاريخ الأجداد المتجسد في جمال العمارة الشامخة والتراث العريق، الذي يروي قصة كفاح الأسلاف، وبين هذا وذاك، احتضنت ساحة الحصن زخما واسعا من الفعاليات والفنون والورش والإبداعات التي أضفت على العاصمة سحرا خاصا وحراكا ثقافيا وترفيهيا. مفردات تراثية واستمتع الجمهور على مدار مدة المهرجان، الذي نظمته دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، بمجموعة واسعة من الفعاليات العصرية والتراثية، التي شكلت إضاءة على الماضي وعاشت الحاضر واستشرفت المستقبل، وأكدت أن التراث يحظى بالرعاية والاهتمام، وأنه إلى الأبد في قلوب هذا الجيل والأجيال القادمة، عبر مفردات وعناصر تراثية جعلت الجمهور ينهل من الفعاليات ويتعلم الكثير من خلال ورش مختلفة صممت بعناية فائقة، فنجح المكان في مخاطبة الحواس الخمس، نكهات وروائح ولوحات بصرية، حيث كان للمهرجان طابع خاص، لا تشبه رائحته باقي المهرجانات، ومن هذه الروائح التي أسدلت على المكان جمالا خاصا رائحة القهوة العربية التي عكست جلساتها فن العيش الإماراتي وترجمت دورها الذي كان في السابق يشكل مجلس صلح واتفاق ونقاش وحل الكثير من القضايا الاجتماعية. وأحيا «بيت القهوة» التراث والتقاليد الأصيلة، وقدم تجربة محاكاة نموذجية لمراحل إعداد القهوة وتقديمها، حيث تم تصميم مبادرة «بيت القهوة» لتكون بمثابة تجربة متكاملة لإعادة تقاليد القهوة، في أقرب صورة لما كان متعارفاً عليه في مجتمعاتنا القديمة، وذلك لتوثيق وحفظ الممارسات التي ارتبطت بالقهوة والمجلس، والتي ترمز إلى الكرم والضيافة والاحترام المتبادل، حيث «بيت القهوة» إطار شامل لهذه الممارسات، وفق التوصيف المعتمد في الملفات المقدمة إلى منظمة «اليونسكو». قليلها حب «بيت القهوة» تجتمع فيه الممارسات التراثية والعادات والتقاليد من كرم وضيافة، وسنع تقديمها، تجربة حقيقية أضافت إلى زوار المهرجان جوانب سياحية ومعرفية ممتعة، حيث تفاعل ضيوفه بشكل مباشر مع مقدم الورشة، الذي جسد عمق التقاليد التراثية وأصالتها، وفي خيمة تحاكي بيوت الشعر قديماً وبـ «بيت الحرفيين» عملت شابتان إماراتيتان على إعداد القهوة أمام الجمهور معرجتان على جميع مراحلها، حيث بدأت فاطمة آل علي ومريم الرميثي بتقديم ورشة «القهوة العربية» لتقدما تجربة متفردة للزوار. وتضمنت الورشة الترحيب، وإعطاء نبذة عن الأدوات، وكيفية تحميص القهوة مع ذكر أجود أنواعها، ثم تبريدها وبعدها يصدح صوت المنحاز، وأوضحت الرميثي للجمهور أن صوت المنحاز يعتبر دعوة للجيران والأصحاب لارتشاف فنجان قهوة ودليل على أن البيت يتوفر على القهوة، كما أوضحت أن الفناجين كانت كبيرة، ومن العادات والتقاليد أن لا يتم ملء الفنجان، وأن صب الكثير منها للضيف دلالة على أنه غير مرغوب فيه، والقليل منها دليل معزة وحب، ودعوة للبقاء أطول مدة، كما أن الفنجان المليء «ممزور» يعتبره البعض إهانة، وعندما يكتفي الضيف من القهوة يهز الفنجان، ويردد «أكرمكم الله». مراحل الإعداد وتضمنت الورشة أيضاً تعلم مراحل إعداد القهوة باستخدام الأدوات التقليدية، وآداب تقديمها، وفق المعايير التي تم اعتمادها من قبل «اليونسكو»، إذ عكست الورشة الطابع الأصيل في تقديم القهوة وإعدادها، من خلال التصميم واستخدام عناصر أخرى من التراث المعنوي، باتباع التقاليد نفسها في إعداد القهوة وتقديمها وفق التوصيف المعتمد. تجربة أدائية وعرضت الورشة التقاليد المرتبطة بإعداد القهوة باستخدام الأدوات التقليدية، من «حمس» حبوب القهوة باستخدام التاوة والمحماس، ومن ثم تبريدها ودقها بالرشاد والمنحاز، إلى غلي مسحوق القهوة في الدلة وباستخدام الكوار والمنفاخ، بعدها تقديم القهوة في دلة المزلة والفنيال (فنجان)، مع استخدام أدوات أخرى مساعدة، مثل جرة الماء، والمبخرة والمرش للترحيب بالضيوف، وغيرها من عناصر تراثية مكملة، حيث يعد الموروث مكوناً أساسياً للهوية، وعاملاً حاسماً لمد جذور الانتماء، وقد أثمر توجه دولة الإمارات نحو إحياء التراث والحفاظ عليه، تحقيق الكثير من الإنجازات، وأحد أبرز هذه المنجزات تسجيل سبعة عناصر من تراثها الوطني على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية لمنظمة (اليونسكو)، وأحدها القهوة العربية التي تتمتع بمكانة خاصة في التراث العربي، ومن خلال مبادرة (بيت القهوة) نشارك مع العالم التقاليد العريقة التي طالما جمعت ثقافتنا مع ثقافات العالم على فنجان واحد من التحاور والتفاهم والتسامح. القناد وأوضحت مقدمة الورشة أنه يفضل وضع جميع المكونات في أوان زجاجية، حيث يمكن أن تؤثر الأوعية المعدنية على نكهتها، ومنها القرنفل والهيل والزعفران وجوز الطيب وماء الورد، بينما تحمص القهوة في التاوة أو المقلاة ويتم تقليبها بواسطة المحماس، وهو أداة معدنية على شكل ملعقة ذات مقبض طويل، ثم يتم تبريدها بالمبردة وتستخدم هذه السلة لتبريد وتنظيف الحبوب قبل أو بعد الحمص والتخلص من قشورها وتصنع من خوص النخلة وتطلق على عملية إزالة قشور حبوب القهوة في اللهجة المحلية، ثم وضع القناد، وهي المنكهات المختارة في دلة المزلة، وتأتي مرحلة التصفية وتتم بوضع ليفة تصنع من لحاء النخيل في فوهة دلة «التلقيمة» لتصفية القهوة عند صبها في دلة المزلة، ويتم دق حبوب القهوة بالرشاد والمنحاز، وهو عبارة عن «هاون» ومدقة يصنعان من المعدن ويستخدمان لدق حبوب القهوة والمكونات الأخرى وطحنها، والغلي يتم بدلة الخمرة، وهي الوعاء الذي يستخدم في إعداد القهوة لغلي الماء ويتسع الوعاء من اثنين إلى أربعة لترات من الماء ويصنع من النحاس، ويتم التقديم بدلة المزلة وهو وعاء من النحاس يستخدم لتقديم القهوة للضيوف. منصة الأفكار كثيرة هي الأنشطة التي شكلت نقطة جذب لزوار مهرجان الحصن الذي اختتم فعالياته أمس بعد أن قدم لزواره هذه الدورة تجربة مميزة، حظي الجمهور خلالها بفرصة للاطلاع على مبنى قصر الحصن تسلط على هذا المبنى التاريخي وما يمثله من مكانة بارزة للإمارات، واستمتع الزوار بالمشاركة في الفعاليات العديدة والمميزة والتي تضمنت ورش عمل وعروضا ثقافية وتفاعلية غنية بالمعلومات تحت إشراف خبراء محترفين ومتخصصين في مجال الآثار والتاريخ. كما ضم برنامج المهرجان مجموعة من العروض الأدائية تتضمن رواية القصص والشعر والعروض السينمائية والأسواق الشعبية والعصرية، وشهد المهرجان هذا العام في نسخته الأولى نجاحاً كبيراً، حيث استقطب آلاف الزوار من المواطنين والمقيمين والزوار، ومن الفعاليات الجميلة التي استقطبت الجمهور فعالية «الحضيرة» التي كانت في سالف الزمان تشكل منصة لتبادل الأفكار ومناقشة القضايا وإجراء الصلح بين الناس من أفراد القبيلة وتعكس جانبا من فن العيش الإماراتي، وتشتمل الحضيرة على «المقهوي» وعازف الربابة، مما أضفى على المكان سحراً خاصاً ضمن أجواء الطقس الباردة، حيث تمتزج رائحة القهوة الإماراتية المعطرة برائحة الحطب، ويزيدها صوت الربابة والعازف ألقا، هكذا قال عازف الربابة راشد المشيخي الذي بدأ العزف قبل أكثر من 30 سنة وكانت هوايته المفضلة. وأوضح أن الربابة بوتر واحد من خيوط «البريسم» الحرير، بحيث أكد أن جميع أنواع الربابة بوتر واحد إلا في مصر، فهي بوترين، وعن الغناء المصاحب لعزف الربابة، فأكد أنه عبارة عن شلات وونات وتغرودة، حيث كانت التغرودة تقال عند مرافقة القافلة، أما الشلات والونات، فهي تقال في الحضيرة، وبالنسبة لدور الحضيرة في السابق قال: إنها كانت تجمع الناس للتسامر وللصلح، ومناقشة هموم الناس. شلات صدح عازف الربابة بالعديد من الأشعار كان من أبرزها «يا هلا البرزة مع الدلة.. عالقهوة والناس مشتاجة»، وغيرها من الشلّات والأبيات المستوحاة عن البيئة الإماراتية، وتغنى بأشعار الكندي والرقراقي، كما برع راشد المشيخي في نظم الأبيات، وشدا بها في مختلف الفعاليات، إلى جانب أشعار أخرى لشعراء معروفين في عالم الشعر النبطي بين أبناء الإمارات، والكثير ممن يعتز بالترنم به في الأمسيات الشعرية والمجالس الشعبية. ارتشاف القهوة المعطرة لا تزدهي الحضيرة إلا بموقد النار ورائحة الحطب والقهوة وصوت المنحاز، هذا ما جعلها المكان المفضل للعديد من الزوار الذين يقبلون عليها لارتشاف فناجين القهوة المعطرة مع التمر والاستمتاع بأجوائها الجميلة، إلى ذلك قال المقهوي علي الدهماني إن الحضيرة اسم مشتق من كلمة الحضور حين يحضر الأهالي إلى المكان، ليحصلوا على جانب من الكرم العربي، باعتباره صفة فطروا عليها، فالكرم يتمثل في تقديم ما يمتلك أصحاب المكان، وكان أول ما يقدم القهوة لضيوفهم ثم لأنفسهم، ليتشارك الجميع في تناولها، وتقديم القليل من القهوة إلى الضيوف دليل على الرغبة في وجودهم، أما تقديم الكثير منها، فمن شأنه أن يزعجهم ويشعرهم بعدم الرغبة في وجودهم واستعجال رحيلهم، سواء في الزيارات المعتادة أو أيام الأعياد والمناسبات. الصقر يحظى باهتمام الزوار من الفعاليات التي استحوذت على اهتمام زوار مهرجان الحصن وأثرت فعالياته الكبيرة والمتنوعة أنشطة الصقارين، حيث قال الصقار محمد الحمادي الذي يعرض بعض الصقور متعددة الأنواع مثل الجير والشاهين والقرموشة: إن هذه المنصة جذبت الكثير من الزوار وخاصة الشباب والأطفال الذين كانوا يستفسرون عن هذه الهواية، موضحاً أنها تبدأ بتربية الصقور والعناية بها وفهم شخصيتها ثم تعلم الصيد بالصقور، مشيراً إلى أن برقع الصقر يلعب دوراً مهماً في عمل الصقارين، وعلى الصقار أن يختار النوع الجيد والمقاس المناسب للطائر، لأن المقاس المناسب يجعل الصقر في حالة من الراحة والطمأنينة. وأضاف: «تعتبر رياضة الصيد بالصقور من الرياضات المحببة بالدولة وجزءا لا يتجزأ من تراث عريق يمتد إلى مئات السنين»، وتعرف محلياً بالقنص وتمثل جانباً مهماً من حضارة وتراث العرب، حيث عرف الصيد بالصقور منذ القدم ومارسه الإنسان بغرض الحصول على القوت اليومي إلى جانب ممارسته كرياضة وهواية، وقد برع أهل الإمارات في تدريب وترويض الصقر ومعاملته. ورش عمل طلابية استضاف مهرجان الحصن على مدى الأيام الماضية مجموعة من طلبة المدارس والمخيمات الشتوية ضمن ورش عمل ميدانية تم تنظيمها لتعزيز الهوية الوطنية والإضاءة على أصالة الموروث الشعبي بأساليب حديثة وتقنيات عصرية، وقدم الطلبة بنهاية كل ورشة رسائل عبروا فيها عن انطباعاتهم كل حسب رأيه.
مشاركة :