رفعت مسرحية “رسائل العشاق”، المعروضة حاليا في القاهرة، ورود الحب الحمراء في مواجهة طبول الحرب، مُستدعية شخصية جلال الدين الرومي كأيقونة للعشق والشعر والتصوّف في الواقع الحالي المرتبك، لكن المسرحية لم تنجح في تمرير رسائلها الفنية بسبب ضحالتها ووقوعها في الأشكال الخطابية والمباشرة. القاهرة – يبدو كليشيه التصوّف اختيارا سهلا للكثير من الأعمال الإبداعية في مصر والعالم العربي خلال الآونة الأخيرة، سواء كانت مطبوعة في كتاب أو مُجسَّدة دراميا بشخصيات من لحم ودم، فمنذ صدور رواية “قواعد العشق الأربعون” للتركية إليف شافاق، وحلم “الأكثر مبيعا” يراود المتمسحين بالتصوّف والعابرين على ضفافه، حتى وإن لم يتفاعلوا بجدية ووعي مع فلسفته وطبقاته العميقة ورؤيته الشاملة التي تسع الوجود. ويجري أحيانا امتهان التصوّف وانتهاكه بفعل فاعل، وليس من قبيل السذاجة والسطحية، عبر أعمال فنية تتعمّد التدليس والتلفيق وليّ عنق التاريخ في محاولات بائسة لفرض مفاهيم سلطوية ومبادئ مغلوطة باسم قواعد التصوّف، كحضّ الشعب مثلا على الامتثال للزهد والاستكانة، بمعنى الترفّع عن المطالبة بحقوقه الأساسية، وارتضاء المذلة والفقر إلى الأبد. من هذه الأعمال الإشكالية التي لجأت إلى ثيمة التصوّف كقماشة جاهزة على أمل مغازلة الجمهور المفتون شرقا وغربا بمقولات جلال الدين الرومي وقصائد العشق الروحية المترجمة إلى كل لغات العالم، مسرحية “رسائل العشاق”، التي تعرض حاليا على مسرح “ميامي” في القاهرة، من تأليف وإخراج محمد إبراهيم، وديكور هبة عبدالحميد، وموسيقى وغناء علي الهلباوي، واستعراضات مناضل عنتر، وبطولة مفيد عاشور وعدد من الفنانين الشباب، وإنتاج البيت الفني للمسرح. لم تنجُ المسرحية من مآزق الكتابات والعروض الممسوسة بهوس التصوّف دون أهلية كافية وضرورات معرفية لازمة، ولا تغفر النوايا الطيبة بطبيعة الحال خطيئة الهبوط بالتصوّف كفلسفة والعشق كمفهوم والمسرح كدراما إلى هذا المستوى البدائي، حتى وإن كان الغرض المعلن نبيلا، وهو تغليب الروحانيات على الماديات، والتصدي لكل شرور العالم وآثامه بالمحبة والتسامح، ونشر القيم الإنسانية من خلال قصائد ومقولات يتم إلقاؤها كخطب إرشادية على جمهور شارد؛ “إنهم مشغولون بالدماء، بالفناء، يدقّون طبول الحرب، أما نحن فندق طبول الحب”. شكلت مسرحية “رسائل العشاق” الحلقة الأضعف في مسلسل الأعمال المرتكزة على التصوّف، ومنها على سبيل المثال مسرحية “قواعد العشق الـ40” لفرقة المسرح الحديث بالقاهرة، التي استحضرت جلال الدين الرومي إلى جانب صديقه الدرويش الجوال شمس الدين التبريزي في قالب تاريخي، ساردة على نحو مجاني ركيك تفاصيل علاقتهما التي أسهمت في تحوّل الرومي من عالم وفقيه، إلى فيلسوف وشاعر رفيع الشأن. بدورها، استعادت “رسائل العشاق” شخصية جلال الدين الرومي كمتصوّف وشاعر وفيلسوف وإمام العاشقين، لكن في سياق العصر الحديث الراهن هذه المرة، من أجل استثمار المفارقة والصدمة، ليكون الشيخ النوراني “ذو العباءة البيضاء والشال الأخضر”، القادم على عجلة الزمن، بمثابة المارد أو الساحر أو البطل الشعبي المخلّص، الذي بيده حلول كل الأزمات الفردية والمجتمعية المعاصرة، والطبيب الشافي بالقول والفعل لكل الأمراض ومواضع الخلل، تحت عنوان عريض فضفاض هو “العشق؛ الإلهي، والبشري: الحب هو الحياة، وطوق النجاة، وهو سر الوجود، وروعة المعبود”. لم يتمكن العرض من التعاطي مع التصوّف كتجربة نابعة في أصلها من الحياة المعيشة، ولا من الغوص في أعماق فلسفته كمكابدة روحية ورؤية واسعة للإنسان والأشياء والعالم، تعنى بالجوهر وتعيد تأسيس الموجودات والعلاقات والمسمّيات والمعاني، بقراءة خاصة جديدة لكل ما يحيط بالبشر ويمسّهم، قوامها الاستبطان والاستشفاف والحدس القلبي، نيابة عن المنطق والإعمال الذهني ووسائل الفهم والإدراك النمطية. انحدر مقام جلال الدين الرومي، العالم الفقيه الشاعر الفيلسوف صاحب اللغة التجريدية متعددة التأويلات والدلالات، في عرض “رسائل العشاق”، إلى مزيج من صورتي الواعظ المباشر في الأعمال الدينية المبسطة، و”سوبر مان” في حكايات ما قبل النوم للأطفال، وأمعن السمت الشكلي له والأداء اللفظي الفخم في تكريس العباءة التقليدية التي عاد بها حاملا فوانيسه غير المقنعة وأفكاره المسطّحة، التي لم تخرج عن ترديد بعض أبياته الشعرية، والتعليق عليها، ومحاولة شرحها لأبطال العرض من العشّاق المأزومين المهزومين، بغية إصلاح أحوالهم وحل مشكلاتهم الحياتية، وهدايتهم إلى الفهم القويم لدين الحب، على حد تعبير محيي الدين بن عربي “أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ.. فالحُبُّ ديني وإيماني”. اعتمد بناء المسرحية على توليفة من العناصر المجتزأة، منها تقنية الرسائل التي يتبادلها الأحبة والعشاق بين بعضهم البعض، وتتضح فيها معاناتهم ولواعجهم، وانقسمت هذه الرسائل إلى مكاتبات عصرية بين أبطال العرض من الشباب في مواقف ومشاهد مختلفة تمثل صراعات الحياة وضغوطها ومشكلاتها الراهنة، مثل: الغلاء، البطالة، تأخر سن الزواج، العنف الأسري والتمييز ضد المرأة… إلخ، ومكاتبات تاريخية شهيرة أحال العرض إليها، كتلك الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران ومي زيادة. ومع استعراض كل رسالة بصوت قارئها، يظهر جلال الدين الرومي معلقا ومعقبا بمقولاته وأشعاره، ليسهم في توضيح أمر ما أو حل مشكلة مستعصية. من العناصر الأخرى التي استند إليها العرض في التوليفة المُبتسرة: الإنشاد الشعري المصحوب بالموسيقى، لقصائد جلال الدين الرومي، والغناء، والاستعراض، والكولاج (تضمين مقاطع من أغنيات أم كلثوم: كـ”الله محبة”)، والمفارقات الكوميدية الناجمة عن اختلاف الزمانين الحاضر الآني وعصر الرومي، والرقصات الإيقاعية التي حاولت الاقتراب شكليا من نهج المولوية ورقصة الدرويش الدائرية، وما إلى هذه الطقوس التي سعت إلى شحن العرض بطاقة إضافية تخرجه من جموده، وتكسر سكون الأداء التمثيلي، خصوصا لدى الشيخ الرومي الرزين، الذي بدا أداؤه صوتيا في أساسه. اقتصرت ملامح الدراما على مجموعة من الثنائيات العشقية التي تجسد تعثر العلاقات العاطفية بين الشباب في مطبّات الواقع المادي الكابوسي المُحبط، ولم يسترسل العصر في استعراض ملابسات هذه الإشكاليات، ولم يستغرق في تصوير الصراعات وتحليل أسبابها، وإنما لجأ إلى القفز السريع إلى الحلول من خلال “توجيهات” الرومي، القادم من عالم اليوتوبيا الخيالي، وليس من التاريخ بالتأكيد. سعى العرض إلى تمرير بعض النفحات الإشراقية المستمدة من تراث الرومي، المغازلة للفطرة الإنسانية، والباعثة على استثارة العشق الإلهي وتغذية القوى الروحية والطاقة الإيجابية، وتعزيز القدرات البشرية الكامنة لتخطي القضايا المستعصية. لكن هذه الومضات المؤثرة التي اكتسبت جمالياتها من أنغام الوتريات والنايات والأصوات المنشدة والغنائية العذبة، “الناي يتألم ويفرح فيُعطي، منذ قُطع من الشجر”، جاءت قليلة وسط ركام التمسّح الزخرفي بالصوفيّة كوعاء خارجي وليس كمضمون. يمكن القول باختصار إن المفارقة الأبرز في عرض “رسائل العشاق” أنه وقع في ذلك الفخّ الذي أجهد جلال الدين الرومي ذاته على مدار العرض في تحذير البشر منه “لقد غاب عنكم المعنى، وحضرت الصورة”.
مشاركة :