على الرغم من التطورات المتلاحقة التي شغلت كثيرا منا عن أصالة التراث وبعده عن ثقافة الماضي إلا أن هذه التطورات لم تستطع أن تبعدنا كلياً عن تراث ومهن شعبية أحبها الكثير، ولاسيما المالح تلك الصناعة الشعبية المعروفة التي زينت مهرجان المالح السنوي بدبا الحصن بالتزامن مع بدء موسمه ويوم التراث العالمي، الذي حظي رغم دورته الثالثة بإقبال وتفاعل كبير من المواطنين والمقيمين والزوار من داخل المدينة وخارجها. حيث تفاعل الجمهور مع الأجنحة والفعاليات التراثية المتنوعة التي احتضنتها الخيمة الشعبية، وذلك لما عكسته فعالياتها من إرث ثقافي يحكي عادات وتقاليد وتاريخ الأجداد بدءا من أدوات ووسائل صيد السمك وطرق الصيد وما يصاحبها من أهازيج وأغان بحرية قديمة، إلى طرق تمليح السمك وتعبئته وإعداده وطرق طهيه وتقديمه، الذي يتم بطرق تقليدية وبأنواع مختلفة كـ (المرق، والمدفون، المجبوس، كما يؤكل مع العيش الأبيض والبصل والليمون)، في الوقت الذي يجسد فيه أنماط حياتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية عبر الحقب المختلفة. تعزيز الاستخدام الأمثل في لقاء مع المهندس أحمد علي بن يعروف النقبي رئيس المجلس البلدي قال: الأسماك تعد من أهم الثروات الطبيعية ومصدرا من مصادر الدخل المتنوعة لدى المواطن. كما تعتبر من أبرز قطاعات الاقتصاد الوطني من حيث قابليتها للتوسع ومكانتها البارزة في الحياة الاقتصادية، خصوصا وأن هناك صناعات جيدة ترتبط بها على اعتبار أن صناعة المالح في المدينة بدأ منذ عهد بعيد ربما يصل إلى قرن من الزمان حسب ما ذكر أهلها. وفي إطار ذلك، كان من الضروري تكثيف الاهتمام والتركيز على هذه الثروة من حيث الاستخدام الأمثل لها. حيث إن هناك إمكانية كبيرة لتنميتها وتطويرها بما يخدم المصلحة العامة والنمو الاقتصادي للقطاعات الأخرى. إرشادات علمية بدوره، أوضح طالب عبدالله بن صفر مدير البلدية: إلى أن المهرجان يهدف إلى تشجيع إنتاج أسماك المالح وإضافة قيمة لمنتجاته وبشكل خاص مع بدء موسمه ومراعاة الممارسات الصحية والتصنيعية السليمة للمنتجات السمكية عموماً، وهذا ما يتم عبر البلدية التي سعت إلى توفير المعلومات العلمية والإرشادية عن المالح ومراحل صناعته سواء عبر توزيع كتيب خاص يحتوي على معلومات علمية وإرشادية لأعمال التجهيز والتعبئة أو من خلال المهرجان من أجل تشجيع التوسع الاستثماري وزيادة دخل أسر الصيادين. مشيرا إلى أن البلدية لا تألو جهدا في توفير الإمكانيات اللازمة لتطوير قدرات المهتمين بهذه الصناعة، ما يسهم في تنمية وتطوير قطاع منتجات الثروة السمكية. ومهرجان المالح السنوي ما هو إلا واحد من المبادرات في هذا الاتجاه لتحقيق ما نصبو إليه من طموحات. الحرص على الاقتناء وفي لقاء مع أشهر صانعي وبائعي المالح بدبا الحصن الوالد أحمد بغداد قال: إن المالح صناعة غذائية خليجية اكتسبت أهميتها من كونها الأرضية الغذائية الآمنة، حيث شكل آنذاك تراثا محليا خالصاً حافظ على التواجد في بيوت أهالي الخليج، رغم تطور أنماط الحياة حتى أصبح عنوانا لأكلات المنطقة. أكد أن المالح يصنع من مختلف أنواع الأسماك، (كالصد والقباب والخباط وكذلك أسماك الشعري)، ولكن أجود هذه الأنواع هو (الكنعد، وبالأخص القباب) الذي - على حد وصفه - الأكثر تداولاً وطلباً من قبل الناس. وعن الأسعار، أضاف إلى أنه مهما بلغ سعر السمك المملح، فالجميع يحرص على اقتنائه، غير أن أسعاره في متناول اليد وفقا لما تم تحديده من قبل البلدية بهدف الترويج له. فبلغ سعر مالح القباب السطل بـ 130 درهما، و الكنعد بـ 230 درهما، والخباط بـ180 درهما. خيمة شعبية ضمت الخيمة الشعبية التي نصبت خلال فعاليات المهرجان أجنحة وعروضا شملت محلات الأسماك المجففة وأسماك المالح والمنتجات البحرية والبرية أيضا، وركن المطبخ الشعبي وحرصت البلدية على إبرازهما انطلاقا من كونهما يعكسان الهوية الوطنية والإرث الحضاري في صناعة المالح، علاوة على البعد الاقتصادي لهذا الإرث التاريخي، الذي تعمل البلدية على المحافظة عليه وتطويره واستثماره في السياحة المحلية. كما تحتوي الخيمة على ركن الأسر المنتجة والمأكولات الشعبية والحرفيات وصناعة السفن وغيرها من المهن المختلف. فعاليات متنوعة الزائر للمهرجان يتعرف على كثير من المعروضات منها المتحف البحري، إضافة إلى ركن خاص بأدوات الصيد الحديثة وركنين خاصين بالمحركات والقوارب الحديثة. فضلا عن أركان للدوائر الحكومية إضافة إلى المهتمين بالتراث. ناهيك عن فقرات تضمنت ندوات ومحاضرات صحية ومسابقات ثقافية وكذلك مسابقات في الطهي بمشاركة نجوم وكبار الطهاة الذين يعملون في فنادق المنطقة لجعل وجبة المالح على مستوى عالمي. كما أن اللجنة المنظمة للمهرجان رصدت جوائز قيمة للمشاركين في الفعالية. النظافة والأمانة.. سر وأساس المهنة في لقاء مع الوالد إبراهيم السلامي أحد المتخصصين بصناعة المالح: إنه على الرغم من تطور السنين تطورت المهنة ذاتها، وقد طرأ عليها تطورات عدة، فلم تعد كبدايتها في التصنيع، فقديماً كان تستغرق العملية من يوم واحد إلى أسبوع أو أكثر، أما الآن فقد اختلف الوضع مع ظهور إمكانات حديثة، إلا أن النظافة والأمانة هي أساس الصنعة بحسب قوله. ويضيف: إلا أن النظافة الكاملة واتباع قواعد وأصول المهنة والالتزام بالتعليمات الصحية هي سر نجاح مهرجان دبا الحصن مع المالح، بهدف جعله ذا قيمة غذائية عالية وصالحاً للاستهلاك الآدمي. وأوضح السلامي طريقة صنع المالح التي تعتمد على الطريقة التقليدية، التي تمر بمراحل عديدة أولها تنظيف كل سمكة جيداً، بإزالة الرأس ونزع الأحشاء، ثم شقها من النصف، حتى تصبح قطعة واحدة مفردوة، وتتم إزالة كل الكسل أي العظام منها، ووضع كميات كبيرة من الملح الطبيعي المدقوق. ويوضع السمك المملح بعد ذلك في أوان فخارية عملاقة أو علب من صفيح توضع فوقه قطعة حجر كبيرة حتى يتماسك ويغطى بقطعة من القماش لكي تحافظ عليه سواء في الجو الحار أو الرطوبة، إلا أنها استبدلت في الوقت الحاضر بعلب بلاستيكية أو عبوات زجاجية أو في سطل أو دبات كبيرة، التي تكون محكمة الإغلاق حتى لا تسمح بدخول الهواء، ثم يمكث مدة تتراوح بين شهر إلى شهرين ونصف تحت أشعة الشمس المباشرة، وبعدها ينقل إلى الظلال حتى موعد نضوجه، أما إذا حفظ منذ البداية تحت المظلات أو في الغرف المغلقة فهو يحتاج إلى ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، يصير بعدها صالحاً للأكل. مبيناً أن الشمس تعتبر ضرورية لكل أنواع المالح، خاصة في الشهرين الأولين من صناعته، لأنها تسهم في إنضاجه وتشرب الشرائح بالملح، وإذا كانت السمكة صغيرة الحجم تقسم إلى قسمين، أما إذا كانت كبيرة فتقسم إلى أربعة أقسام. لافتا إلى اختلاف فترة نضوج المالح باختلاف الفصول، حيث تكون أسرع في الصيف، غير أنها تستغرق وقتاً طويلاً إذا تم تصنيعه في الشتاء. متحف شخصي ومن جانبه، قال الباحث التراثي محمد راشد رشود توارثت الأجيال عادات وتقاليد وموروثات غدت مع الأيام ثقافة قائمة وحضارة تعبر عن المنطقة وترمز لخصوصيتها منها مأكولات شعبية اشتهرت بها. تتميز بنكهة وطعم خاص وجودة غذائية عالية، بسبب مكوناتها الطبيعية، إلى جانب طرق الطهي التقليدية المفضلة لدى الأهالي، فأصبحت تلك الأكلات مرتبطة بحياة الناس بشكل شبه يومي. لذا ارتأيت أن يكون لي متحف خاص يعكس هذا الواقع الفني الجميل، بطريقة تعليمية وإرشادية في الوقت نفسه. وجبة بسيطة الزائر حميد جاسم من إمارة دبي، أشار إلى أن وجبة المالح بسيطة وتعتبر صناعتها من أقدم الصناعات على مستوى الخليج عامة والإمارات خاصة، ابتكرت ذات يوم لحاجة ملحة لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان، لكنها لا تزال حية وأصبحت اليوم أكثر رواجاً، حيث برع عدد من المواطنين في إنشاء مشاريع خاصة في التصنيع الغذائي للأسماك والمنتجات البحرية وبصورة خاصة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة المالح، وكذلك في تجفيف الأسماك كأسماك (العومة والبرية) منعاً لاندثار هذه المهن الأصلية والمحببة لعدد كبير من الناس، وحتى من قبل الأفراد المقيمين الذين باتوا لا يستغنون عنها لمجرد تذوقها من المرة الأولى. احتفال إعدادالسمك للتمليح مهنة مهددة بالاندثار لا يختلف اثنان على أن عملية تمليح الأسماك تعتبر من الطرق المستخدمة لحفظ الأسماك من الفساد، منذ قديم الزمان وإلى وقتنا الحاضر. وقد ملّح آباؤنا وأجدادنا أنواعا معينة من الأسماك من أجل تناولها في أوقات مختلفة طوال العام. ويأتي السمك المملح المالح في مقدمة الأكلات البحرية الشعبية، ومن العادات المحببة لبعض البلدان العربية ومنها بالطبع مدن ومناطق الساحل الشرقي التي تمتد أغلبها على امتداد البحر. وفي بادرة فريدة من نوعها، والأولى على مستوى الدولة وليس منطقة الساحل الشرقي، تحول الاحتفال بموسم إعداد المالح إلى مهرجان شعبي، يشترك فيه الجميع، الذي يأتي بتنظيم من بلدية دبا الحصن، حفاظاً على هذه المهنة التي باتت مهددة بالاندثار وخصوصاً بعد عبث بعض الأيادي غير المتخصصة في إعداد هذا الطبق الرئيس الدائم تقريباً أو الوجبة المحببة لأهالي الإمارات. ومن هذا المنطلق، رعى المجلس البلدي بالتعاون والتنسيق مع البلدية وجمعية الصيادين، مهرجان في إعداد وتجهيز سمك المالح بنفس الطريقة التقليدية ولكن مع إدخال القيمة المضافة والنكهات المختلفة، وإعادة تعبئته بشكل جديد وأكثر جاذبية وتوفيره كونه منتجاً جديداً لعرضه في الأسواق المحلية بشكل واسع. فاطمة سبيعان، مديرة مركز التنمية الأسرية بدبا الحصن، قالت إن مشاركتنا في هذا المعرض المصاحب لفعاليات مهرجان المالح أتاحت لنا فرصة عرض خدماتنا على الجمهور، وأوضحت أنها سعيدة بهذه المشاركة، التي تعتبر استمراراً لمشاركاتهم الوطنية في المناسبات المختلفة مثل مهرجان المالح السنوي الذي يعد من أهم الفعاليات التراثية والشعبية على مستوى الدولة. وأضافت أن مهنة تمليح السمك باتت فعلاً مهددة بالانقراض، ويأتي هذا المهرجان لدعم هذا العكل التراثي وخاصة لسكان السواحل، إذ يعد المالح من المأكولات الموسمية التي لا يخلو منها بيت، وتعد من الوجبات المفضلة عند المواطنين.
مشاركة :