هدف العملية العسكرية الأخيرة للنظام السوري وميليشياته المدعومة بغطاء جوي روسي، هو الوصول إلى معرّة النعمان، من أجل فتحه أمام الحركة التجارية تطبيقا للاتفاقات المنجزة على مراحل بين ضامني أستانة. الحملة الأخيرة بدأت هجومها البري في التاسع عشر من الشهر الجاري، بعد قصف جوي استمر لشهر؛ والحقيقة أن بداية الحملة كانت في نيسان(أبريل) الماضي، وتوقفت في آب ( أغسطس)، بعد سيطرة النظام على مناطق واسعة في ريف حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي والجنوب الشرقي، لتُستكمَل الشهر الجاري، بسيطرة النظام على البلدات القريبة من معرة النعمان، مع إخلاء الأخيرة من سكانها، إضافة إلى موجات نزوح شملت 200 ألف شخص من مدينة سراقب القريبة باتجاه أريحا والمناطق الحدودية أو باتجاه ريف حلب، حيث تسيطر فصائل تابعة لتركيا. مصير معرة النعمان غير محسوم، فقد توقفت المعارك بطلب تركي من روسيا، إذ زار وفد تركي رفيع المستوى روسيا، مطلع الأسبوع الماضي، للتفاوض على تفاصيل تقنية تتعلق بكيفية تطبيق اتفاق سوتشي المبرم في أيلول ( سبتمبر) 2018، حول المنطقة المنزوعة السلاح، والخالية من المتشددين، وفتح الطرق الاستراتيجية. لم تعترض تركيا على العملية العسكرية الأخيرة التي يبدو أنها تنفذ بالتوافق معها، لكنها تخشى موجات نزوح جديدة باتجاه حدودها التي أغلقتها أمام السوريين الآتين من مناطق إدلب، إلا مَن قَبلَ منهم الإقامة في المنطقة “الآمنة”، بين تل أبيض ورأس العين شرق الفرات، وهم قلة قليلة، اذ لا ضمانات للأمن والأمان في تلك المناطق، فضلا عن استهجان هؤلاء النازحين رغبة تركيا في إحداث تغيير ديموغرافي في منطقة “نبع السلام”، التي تسيطر عليها فصائل تابعة لها، وتفضيلهم البقاء في مناطق قريبة، بانتظار فرصة للعودة إلى ديارهم. المفاوضات التي شهدتها موسكو واستمرت ثلاثة أيام هي لإنجاز اتفاق جديد يخص إدلب، كاستكمال لسلسلة الاتفاقات بين الطرفين، التي تنجز ما لم يتم الاتفاق عليه في اجتماعات أستانة الـ14، التي عقدت على مدى سنتين ونصف سنة و يمكن وصفها بأنها اتفاقات غير مكتملة، تحتاج إلى سلسلة من مراحل التصعيد العسكري والقتل والتهجير، ثم إبرام تفاهمات جديدة. وما أنجز ضمن مسار آستانة هو مقايضات تركية – روسية، بموافقة إيرانية. مقايضة حلب الشرقية، بعد تدميرها، بمناطق درع الفرات في جرابلس والباب، ثم اتفاق تهجير الغوطة الشرقية، في مقابل سيطرة تركيا والفصائل الإسلامية التابعة لها على عفرين، وإسكان نازحي الغوطة فيها، بعد تهجير قسم من سكانها الأكراد، وممارسة انتهاكات بحق من بقي. اتفاق آخر أنجز هذه السنة بين موسكو وأنقرة، في شرق الفرات، بعد الانسحاب الأميركي، ثم إعادة تموضع القوات الأميركية حول حقول النفط والغاز؛ اذ سيطرت تركيا وفصائل سورية تابعة لها، على مناطق “نبع السلام”، بعد عملية عسكرية تركية عنيفة، في مقابل عودة قوات حرس الحدود التابعة للنظام إلى المنطقة، وسيطرة الجيش السوري على الطرق الرئيسية وعقدة تل تمر وعين عيسى بريف الرقة، وتنظيم دوريات روسية مكثفة في المنطقة، هذا عدا عن اتفاق يخص منبج، ومحادثات حول تل رفعت. ملامح الاتفاق الروسي – التركي الجديد تتوضّح، بسماح أنقرة لموسكو بتطبيق اتفاق سوتشي الخاص بالمنطقة العازلة في إدلب، بالنار، وسيطرة شرطة عسكرية تركية روسية على الطريق الدولي في معرة النعمان، فيما يسيطر النظام على أجزاء في ريف حماه الشمالي، وطرد الجماعات المتطرفة متمثلة بهيئة تحرير الشام من هذه المناطق، المنزوعة السلاح، وربما سيتم السماح بعودة الأهالي، مع إمكان تجول مخابرات النظام وشرطته فيها، بالتالي اعتقال المطلوبين. أما الجانب التركي فسيحصل في المقابل على وعود من روسيا، وربما من النظام – اذ يتواجد وزير خارجيته وليد المعلم في موسكوبالتزامن مع المحادثات -بحل قوات سوريا الديمقراطية وإنهاء مشروع الإدارة الذاتية، بالتالي تأمين الحدود التركية من خطر الوحدات الكردية. هنا تتلاقى مصالح موسكو وأنقرة ودمشق التي ترغب في عودة الفصائل الكردية إلى حضنها كليا، فيما لا يزال “التأكيد على وحدة الأراضي السورية واستقلاليتها” متداولا في كل التفاهمات بين روسيا وتركيا وإيران، وفي كل التصريحات، وهو لا يعني طرد الاحتلالات، لكنّه يصادر المشروع الكردي الانفصالي، ولإيجاد حل نهائي للحالة الفصائلية، كما أن انعقاد اللجنة الدستورية، ومشروع صياغة الدستور هو منجز لتوافقات ثلاثي أستانة. لا جديد في هذا الاتفاق، إن صحّت التكهنات في شأنه، فهو تطبيق لاتفاقات سابقة؛ اذ سلمت مناطق شرق الحسكة للنظام منذ سنتين وفق اتفاق أستانة 4، فيما توجّب على تركيا العمل لفتح الطريق الدولي بموجب أستانة 6، وحل هيئة تحرير الشام، في كل اتفاقات أستانة وفي اتفاق سوتشي حول المنطقة العازلة، وإنهاء الحالة الفصائلية، باتجاه فصائل تتبع كلياً لتركيا على غرار الجيش الوطني وفصائل غصن الزيتون ودرع الفرات؛ الأمر الذي عجزت أنقرة عن تطبيقه منفردة، من دون الحاجة إلى تصعيد عسكري روسي ومن جيش النظام. سمحت تركيا للجيش الوطني بدخول إدلب، ويبدو أنها تريده للفصل بين مناطق سيطرة النظام ومناطق المعارضة، لكن هيئة تحرير الشام منعته، واشترطت مشاركته في القتال على الجبهات الأمامية، باعتبار أن بإمكانه فتح جبهات باتجاه مناطق النظام المجاورة له، من مناطق سيطرته في ريف حلب الجنوبي. لا يزال الوضع في إدلب مربكا، وهي آخر المناطق المشتعلة، ترتيب حلّها يأتي على مراحل دموية، مع انعدام قدرة تركيا على فرض الاتفاقات على هيئة تحرير الشام، ومع وجود جهاديين أكثر تشددا في مناطق ريف اللاذقية، قد يحتاج إنهاؤهم إلى تدخلات من قوات التحالف الدولي، باشرتها هذا العام، باستهداف مقر لحراس الدين، وقتل زعيم تنظيم داعش أبوبكر البغدادي. ورغم تصريحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب حول إدلب، إلا أن واشنطن حاضرة غائبة في كل التفاهمات الروسية – التركية، كما كانت حاضرة في مؤتمر أستانة الأول في 4 أيار (مايو) 2017، بصفة مراقب. بقي القول إن ما أنجز على الأرض السورية يبدو كأنه انتصار للنظام الذي تحاول روسيا إعادة تأهيله، فيما يبدو القبول به دولياً غير ممكن، ولن يُسقط الأوروبيون أو الأميركيون عقوباتهم إلا بتغيير سياسي يفرضه الروس على النظام.
مشاركة :