... قرب «الضبابية» يسكن فخري غورس، يرتدي الجلباب البلدي مثل خالي وأقارب أبي، لكنه قبطي، مختلف. لماذا هو مختلف؟ لا أعرف، عندما أصحب الوالد لتهنئته بالعيد، أعياد أخرى، سبت النور، أحد السعف، انتهاء العيد الكبير، القيامة، أرى كنبة، يجلس عليها أبي والمعلم فخري إلى جوار بعضهما يتحدثان عن أشخاص غائبين، لا حضور لهم. لا يجتمع اثنان إلا ويستحضران أفرادا لم أرهم قط، لا أعرفهم، مرة أستعيد من تحدث معهم أبي، وفي أحوال أخرى أسترجع من وردَ ذكرهم. غير أن ما يلوح لي دائما من زيارات فخري غورس، رائحة الثوم الذي كان يتاجر فيه وطبق الكعك، كعك مماثل تماما لما تخبزه أمي، النقوش والسكر الناعم الذي يغطي السطح، المذاق من المكونات نفسها، فيم الاختلاف إذاً، لم أدخل ديرا أو بيتا صاحبه قبطي أو كنيسة إلا ويخطر عندي ذلك الطبق الذي وضعه برفق المعلم ذات صباح حليبي الضوء لم أعد أحتفظ باسمه، لكنني أعي وضعيتي جيدا في مواجهة الكعك المرصوص. لدكان العسال رائحة خاصة، يغلب عليها الحلوى رغم أنواع السجائر، ملبن سادة، ملبن بالمكسرات، لكنني أتوقف عند ثلاث، نوجا وكاراميللا وفوندام، الأخير ألوانه متعددة يغلب علىها الأبيض والأحمر والأصفر، ملمسه خشن غير أنه يذوب بمجرد وضعه في الفم، انطوت المراحل، وذات يوم صرت إلى صحبة صاحب حميم مقيم في باريس، توقف أمام محل حلويات قديم، يعرض مباهج شتى، أتجه إلى قسم من المعروض. فوجئت بلافتة عليها «الفوندام»... الحروف فرنسية غير أنه النطق نفسه عند وقوفي طفلاً أمام دكان العسال، فوندام، غير أنني لم أضعه في فمي، ولا أظن، من الأسماء التي ارتبطت عندي بالحلوى المصنعة «الرشيدي» ويبدو أنه قديم، تخصص في الحلوى الطحينية، شكل علبته المصنوعة من المعدن حاضر عندي دائما، دائرية، تزن نصف الكيلو أو كيلو، عندما تبدو علامات الجوع أخرج من الحقيبة ما أعدته أمي، نصف رغيف محشو جبن أبيض استانبولي، حادق في غير زيادة، النصف الآخر محشو حلاوة طحينية. مع الزمن صارت العلامة جزءا من المذاق، الميزان واسم الرشيدي المكتوب بالنسخ، جبنة بيضاء وحلاوة، إنها الوجبة الأمثل، مع إقلالي من كل ما يحتوي على سكر تباعد المذاق، غير أنني أعود إليه خلسة. أشطف من العلبة التي اشترتها ماجدة ربما بدافع الحنين أيضا شطفة رقيقة، أتذوقها وسرعان ما أكف، أحيانا يسلك السائق طريقا مغايرا، ندخل من القلعة إلى ابن طولون، قبل وصولنا ميدان السيدة زينب أتطلع إلى أعلى، إلى الشعار، إلى العلامة، إلى الميزان المعلق رسمه أعلى المصنع، أراه فأحن وأستعيد إصباحا وخَرجات إلى رحلات خلوية، ولحظات ارتواء بمذاق ارتضيه، لا أعرف الرشيدي، ولم يعرف هو ولا ورثته ما ترسخ عندي بسبب الحلوى التي تفننوا في عملها، ولم يصمد أمامها أي اسم آخر من عين النوع. حتى إنني عندما نزلت استانبول ومشيت متفرجا على السوق المصرية المغطاة، لفتت نظري أنواعا من الحلوى الطحينية، منها المرصع باللوز، والمحشو بالفستق أو الذبيب، ونوع آخر يميل لونه إلى اخضرار، غير أنني لم أجد دافعا للتذوق أو التعرف، تكفيني حلوى الرشيدي الموسومة بالميزان فكأنها المصدر كله، رغم عدم يقيني بمصريتها، واحتمال معرفتها عن طريق الأتراك. أما رمضان حافظ فارتبط عندي باللوز المصنوع من السكر، والترمس الملون، معرضه يقدم في الواجهة أنواعا من الفاكهة لكنها من السكر، بعد أكثر من نصف القرن التقيت بسيدة وقورة، جمالها متزن، هادئ، قالت إنها من القاهرة القديمة مثلي، كانت تجلس وراء مكتب فسيح فوقه حاسب متطور، نائبة مدير البنك، عندما قالت إنها ابنة رمضان حافظ أضاءت نهارات وانبعثت مواقد وحنّ مذاقي إلى أنواع مفتقدة. لحيظات من بهجة مستعادة، أصغيت متأسيا إلى مشاكل تعرض لها والدها، عمال أضربوا، هددوا بحرق المصنع، اضطر إلى إغلاقه، إلى التوقف، لكنه عندي مازال، ما أنتجه رأيته عند العسال، في واجهة معرضه الذي يحمل اسمه في السكة الجديدة قرب محل البلبيسي المتخصص في العطور المواجه للسرجاني تاجر الذهب الشهير. أمي رهنت عنده الكردان الذهبي عيار أربعة وعشرين وكانت تتمنى لو أنها ورّثته لأختي، فتحت عيني عليه، لا أعرف كيف صار إليها؟ من جدتي أو اشتراه أبي في وقت يُسر، لم أسألها إذ كان جزءا منها، تحتفظ به في السحّارة، تتأمله ساعات الصفو، ترتديه عندما نخرج في زيارة إلى الأقربين أو ذوي الشأن. كان عزيزا عليها، غير أنها ألحت حتى يقبل أبي بيعه، رضي برهنه على أمل تحسن الأحوال واسترداده، لكن الأمور مضت إلى الأصعب، من الأمور التي حيرتني لفترة طلبها مصاحبة أبي يوم الاتفاق على البيع، ظلت صامتة، مستسلمة، نظرها لم يفارقه حتى توارى داخل الخزانة الحديدية الضخمة، ها هي تجلس متطلعة وادعة. السرجاني، زهرة زوزو، المجمل، أوتوبيسات فؤاد درويش، الطرابلسي، أبو رجيلة، محل أحمد حلاوة للملابس، داود عدس، خار المبو للعصائر، ممر الكونتيننتال، الطرابيشي، أجزاخانة روقية، عوف للأقمشة، الأهرام، المصري، الدهان، الكلوب المصري، حنفي الحلاق في ميدان بيت القاضي، الحاج الصاوي، الشيخ تهامي، حبيب البقال. أسماء يثير استدعاؤها الحنين والتطلعات المبهمة، أعدل من وضعي إذا كنت في جمع، أو أطلق آهة إذا كنت مفردا، وقد أستسلم منصاعا إلى هذا الوميض الذي لا يمكن تفسيره.
مشاركة :