أماكن / تلك العيون... العيون (3) | ثقافة

  • 5/30/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

... يصحبنا أبي إلى المتحف الزراعي. المبنى مجاور لوزارة الزراعة، حيث يعمل الموظفون والسعاة من صحبه، أتجول به آمنا، أتوقف أمام الفتارين الحاوية للأحجار والحشرات المحنطة والقطن والقمح وسائر الحبوب بشتى أنواعها. أحيانا يقترب مني أحدهم يشرح لي الصورة، أو يذكر شيئا عن التمثال المعروض، أو الحيوان المتجمد في وقفته، نوعه، أين يوجد، تدرجت علاقتي بالأشياء، في سنيني الأولى. كان العالم كله ناطقا في مخيلتي، الجدران تتحدث إلى بعضها بعد نومنا، السماء تقبل الأرض عند الأفق وتهمس لها، للتماثيل همومها وأشجانها، الأشخاص الذين يجلسون في عربات اللعب، الترامواي، الحافلات، عربات الأجرة، لكل حياته وأشواقه. هذا ما أتصوره بعد أن أدير الزمبلك وأتابع المركبة الصغيرة التي تجري بمفردها، لكل منا لعبة في العيد، يصحبنا الوالد لشرائها، مازالت رائحة صناديق الكرتون صاحية عندي، مرصوصة في مدخل المتاجر بالموسكي، أحار عند الاختيار، تزوغ عيني من هذه اللعبة إلى تلك، في النهاية أعود إلى البيت محتضنا واحدة، لا يمكنني تحديد السنة التي انتهت فيها هذه العادة، وإن كنت أرجح أنها منتصف الخمسينيات، ربما قبل دخولي المرحلة الإعدادية، حدث في باريس أن دعيت آخر ليلة في أسبوع شاركت في أنشطته إلى منزل إحدى المشرفات على البرنامج، السيدة الشابة استقبلت المشاركين من جنسيات عديدة في بيتها، زوجها منحدر من أسرة ميسورة الحال. الشقة في بناء قديم راسخ، مطل على مَعلمين شهيرين، من النافذة في غرفة الاستقبال يمكن رؤية برج إيفل، بدا مغمورا في لون أزرق إشارة إلى علم الاتحاد الأوروبي، اجتماع على مستوى رفيع في ذكرى التأسيس، يمكن أيضا بنفس النظرة رؤية قبة الانفاليد الذهبية، يقف طفلاها مبتسمين، مرحبين بالقادمين، تأثرت بدرجة ما، فهذه السيدة التي لا تعرفنا جيدا ولا تربطنا بها صلة حميمة فتحت بيتها لمن جاؤوا من قارات مختلفة، على منضدة مستديرة رصت زجاجات من النبيذ، على أخرى فطائر منها المحشو بالخضار، واللحم المفروم، قوالب بعضها مستدير أو مستطيل من الجبن، أنواع شتى، سلة خبز، سقف مرتفع، له ألوان لوحة تعتقت في الظل، بيت لا أعرف عنوانه، لن أعود إليه، هذا شبه مؤكد. بعض ملامحه ستمثل عندي، مررت بمثل هذا مرات لا يمكنني إحصاؤها، من بيت المستعرب الصيني المتقدم في العمر، اسمه ملفت، علق عندي، «صاعد إلى قلب الكون» تلك الترجمة الحرفية للاسم الصيني، بعد تناول العشاء في مطعم متخصص في البط البكيني. صعدنا إلى طابق لا أعرف الآن موقعه، شقة متوسطة المساحة، أشار إلى الصالة، قال إن بيته حتى منتصف الثمانينيات كان أقل مساحة، أساتذة كبار عاش كل منهم مع امرأته وأبنائه في غرفة واحدة. قال إن كاتبا عربيا كبيرا كتب يقول إنه قضى عشر سنوات في الصين لاجئا، لم يدعه أحد إلى بيته، ضحك صاعد إلى قلب الكون: وهل كان لدى أي منا بيت يمكن فيه استضافة أحد؟. يطل على مدخل بيت في حي المنصور البغدادي، تؤدي إليه حديقة تلي السور المنخفض، صالة استقبال فسيحة تتصدرها من تعرفت بها قبل أن ألقاها، رأيت لوحاتها، ألوانها الشهابية، تتخللها حمرة عميقة منبثقة من عمق أنثى، ملامحها مبهمة، لكنها بادية يخترقها شواظ من ضوء ثاقب، عندما تعرفت إليها خيل إليّ أنها بعيدة جدا، مستحيلة التناول، لم أكن مقداما، ولست من الذين يتحسسون الثغرات حتى ينفذوا منها، غير أن عينيّ تترجمان ما عندي، خاصة إذا واجهت مثل نافذتيها، لم يكن لهما مِثل، بمفردهما سَعى، ولوحدهما قَصد كأنه مُنبت عما عداه، عندما زرت المتحف العراقي أول مرة عام أربعة وسبعين توقفت طويلاً أمام العيون، النظرات المتجمدة، الشاخصة إلينا من العدم، عيون فسيحة، كل منها بؤرة، العيون المصرية سيالة، سلسالة، هادئة البت، ماضية إلى بعيد، إلى حيث لا يمكن التحديد. أما العيون البابلية فحضورها مستوفز، متجاوز، حاد وفسيح، لم أتوقع أبدا أن أراها ساعية، أستعيدها فلا أرى إلا هي، لها ما تحتها وما فوقها وما يحيط بها، تعرفت إليها في بغداد، أين؟ لا أدري، كيف؟ لا أعرف، غطى جمال عينيها على ما عداه، لم تكن بالطويلة ولا بالقصيرة، في تجسدها مواطن شتى للجمال، يمكن لزوم عنقها، استطالته وشمخته، كذا صدرها الرحب الفضائي، كأنه مُشرع أبد. غير أنني هجرت هذا كله ولزمت عينيها، إن في المرات العابرة التي رأيتها فيها أو خلال استرجاعي لهما بعد أن جرى ما جرى، ركبت معها عربة في القاهرة، كانت تجلس في المقعد الخلفي بجوار صاحبة لزمتها طوال الوقت، أتحايل للنظر إلى عينيها في المرآة العاكسة المعلقة، ثم جئت بيتها هذا في المنصورة. المرة الوحيدة والأخيرة، لا أدري كيف ألممت ببعض مما يخصها، تزوجت رجالاً في سن أبيها وهي في الثالثة عشرة، عاشت ولم تعش، تفرغ طاقتها في الرسم الذي أحبته ودرسته، لا أعرف كيف ألممت بذلك، غير أنني موقن أنني أصغيت إليها. هل جرى ذلك خلال زيارتي لها في المكتب، مكتبها ملحق بالمتحف، ربما، لست مستوثقا، لكنني أكاد أرى دعوتها لي إلى الصالة الداخلية، حيث علقت لوحاتها، مضينا منفردين، وقفت إلى جوارها متهدجا، تواقا، بيننا مسافة ورعدة متصلة، لحقت بنا التي جلست إلى جوارها في القاهرة، لا أذكرها، مكانها معتم، عينا ليلى ولا غير، هذا بيت لن أراه، لن أطأ أرضه مرة أخرى.

مشاركة :