... عندما بدأ قصف بغداد عام واحد وتسعين، صاروخ كروز منطلق ربما من البحر الأحمر، أو من قاعدة في شبه الجزيرة، أو سفينة في الخليج، وجد طريقه إلى صميم عينيها، محا وجودها، مكان البيت حفرة، هذا ما وصفه لي الصحب بدقة، في مدينة عشق آباد قبل استشهادها بعامين. دعيت إلى بيت من طابق واحد تحيطه حديقة، صاحبه مخرج سينمائي، أوقد نارا ليشوي لحما ويسخن أرغفة سخية من قمح، بيت ينضم إلى بيوت لم أعرفها إلا مرة واحدة ولن ألج فراغاتها قط، بيت كان يمكن ألا أستعيده لولا تلك البنية، جاءت من داخله، لعلها ابنته، حضورها من ملمس الحرير الطبيعي، فسرى إليّ منها أزيز مازال صداه يتردد ورجعه يجتاحني من حين إلى حين، فأوشك على التذري! من البيوت التي تتردد عليّ، مسكن صاحبي المجري، تلميذ الشيخ المستعرب عبدالكريم جومانيوس، أيضا لا أذكر كيف تعرفت إليه، رغم قولي إن البدايات دائما لا تنسى، كذلك النهايات، لكن يبدو أن هذا ليس في كل الأحوال، كان يعمل في السفارة مستشارا ثقافيا، مشغولاً باللغة العامية. قرر دراسة المفردات التي يستخدمها أحمد رجب في أفكاره التي يضعها لرسوم الكاريكاتير التي يقوم بها مصطفى حسين، جاءني بملف يحوي ما نشر خلال عامين، رتبت مقابلة جمعت بينه وبين الكاتب الشهير الذي تربطني به صلة ومودة، ها هو يجلس أمامي كأنه موشك على الانكماش، التداخل في بعضه، متطلع من تحت إلى فوق، أصغي إلى نطقه الخاص، تأكيده على نهايات الحروف، عنده سخرية، يقص الواقعة عبر بداية ونهاية. يحكي على تؤدة ومهل، أجلس إليه في صالة بيته بالعاصمة بودابست، مبنى لا أعرفه الآن، مستحيل وصولي إليه لأنه صحبني في عربته من بيت الضيافة الذي نزلته، بيته الذي لم أدخله إلى هذه الليلة، مع تقدمي في العمر أدرك تقلص العالم ومحدوديته بالنسبة لي، ليس على مستوى البلاد التي لن أراها إنما بالنسبة لمناطق في مصر ذاتها، وربما في المدينة التي أعيش فيها، يتحدد العالم أكثر كلما لزمنا وأمعنا، يقوى ظهور يوهاس أمامي، يجلس بجوار مدفأة من الخزف، داخلها مصدر غير مرئي، لكنها ترسل أشعة متساوية فتسري الحرارة، تدخل زوجته، من حوارهما تلوح جفوة، تحييني بتحفظ قبل أن تدعوني إلى العشاء، لم أرها إلا ثلاث مرات، مجرد عبور. أما ابنه فلم أعرفه إلى من صوره، الأنثى التي علقت عندي من ناحيته مرت أمامي مرات في المركز الثقافي بالقاهرة، كأنها تمشي في مياه هادئة تنفذ إليها أشعة القمر والنجوم، راسخة الجمال، بثاثة، مجرد ظهورها لثوان يترك أثرا غائرا. ما تبقى عندي منها قوامها ونحت كتفيها، انسدالهما من الكتفين، هكذا لونه القمحي الموشّى بحمرة الدماء الشابة السارية، مرورها بين أرفف الكتب يعاودني، مفرزة أنوثة، ومركز جذب، هل ثمة ما يخصهما؟ لا أعرف، لم أتطرق ولم أسأل، غير أنني أعرف بوقوع شقاق ما بينه وبين امرأته، كيف أحطت علماً؟ لا أدري. ربما منه، ربما من صاحب مشترك، عاد إلى مصر سفيرا، ثم انتقل إلى بغداد، وشهد القصف المركز في الحرب الأولى التي تلت غزو الكويت، ثم جاء إلى مصر في وفد، زارني في مكتبي، مجرد دخوله فوجئت، أرنو الباسم، الذي لم تغب عن ملامحه مسحة السخرية قط يبدو على هيئة جسده قبل التحلل، كأنه ميت يمشي، قعد متهدما، قال إنه خسر كل شيء، كل شيء، ولده سرقه، جرد البيت تماما، أخذ ثلاثة كيلو ذهب كان يضعها في الخزانة، بدا متضعضعا، متراجعا، نهنه مثل طفل، سافر إلى حيث لا أعرف، لم أره ويبدو أنني لن أراه، لم أعرف كيف أتصرف، مسست كتفه، مددت إليه مناديل ورقية، قلت شيئا عن حتمية عودة الفرع إلى الأصل، لم أره قط فيما تلا ذلك، إلى أن قابلت رساما يعمل في الدار نفسها، بعد أن صافحني واطمأن على الأحوال، صاح مبتسما: اسكت مش أرنو مات!، لم أبد سخطي ودهشتي، ما علاقة الابتسامة التي رأيتها بنبأ الموت؟، غلب عليّ فضولي، استفسرت، كيف؟، قال إن عربة صدمته أثناء عبور الطريق، هنا أطل عليّ من جوار المدفأة، على ملامحه تلك النبرة الساخرة،غير أن حزنا دفينا يطل من عينيه، في أماكن شتى توجد مبان وقاعات ودور لن أدخلها أبدا، منها بيت أرنو. من ديوان الشعر العربي: قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا
مشاركة :