لن ترفعك في الساحات إلّا السواعد المؤمنة بروعتك الكاسحة لكل مظاهر البشاعة والتفكك ما بين أهل وطن واحد. ولن يقيّم هيبتك الضاحكة في وجه الفساد إلّا من أدرك أنك لا تقومين إلّا ببساطة وعمق الحب الذي يكنه أفراد مجتمعون تعارفوا وكأن لم يكونوا يوما أولاد وطن واحد. هؤلاء مثل أهل الثورة اللبنانية الذين عقدوا العزم، وقبيل حلول ليلة الميلاد بأيام عديدة على الالتفاف على بعضهم بعضا والمُشاركة بأفكارهم وتمويلهم وسواعدهم لتنبثقي من واقعهم، وكي يحققوا ولادتك المُضيئة والمُضاءة في ساحات الثورة اللبنانية. أحرق متربصون بالثورة عددا منك قبل ليلة العيد. لكن الثوار أعادوك أكثر تألقا وأكثر تحملا لملامحهم هم، دون غيرهم من البشر. رُفعت في ساحات مختلفة، وواحدة في آن واحد، خارج تقليدية المناسبات المُزينة التي يعقد عليها النيّة، كما في كل سنة، الفاسدون “تجار” الجمال المزيّف ليهدروا مبالغ طائلة من المال العام بحجة صناعتك بهيئات مُملة وشبيهة بكل الأشجار في العالم. هذه الشجرة الميلادية/ الشجرة العلمانية/ الأرزة اللبنانية/ شجرة الحياة.. أضاءت الساحات وجاءت مصنوعة من مواد أعيد تدويرها بفنية وبخصوصية لافتة متأثرة بالموقع الذي أقيمت فيه لتحمل آمال الثوار. جاءت لا تختلف عن “شجرة الحياة” في رمزيتها، إذ أشارت إلى السلام والرغبة فيه وتحدثت عن الشعور بالاكتفاء وأزلية التجدّد والوحدة ما بين الناس، ونشرت فرح الحياة منذ لحظة بداية التفكير بتنفيذها، وذلك من خلال العطاء والمشاركة والشعور بالآخر. وقد ذكر أحد المواطنين أن أجمل ما أعطتهم الشجرة هي “الفرصة لكي يتعرفوا على شركائهم في الوطن من دون وسيط، ومن نافل الذكر أن هذا الوسيط كان زعيم هذه الطائفة أو تلك”. كما جاءت الشجرة الواحدة المتوالدة في مختلف المناطق جميلة فنية ومُبتكرة، إن بالمواد المستخدمة لصناعتها حينا، أو بالأفكار التي أنشأتها أو بفنية التنفيذ الذي كان في تحقيق بعض الأشجار مشحونا بالتفاصيل ومتميزا بالبساطة والاختزالية حينا آخر. في وجه كل من وجد تفاهة في الانصباب على صناعة أشجار ميلادية في الساحات وصولا إلى الاحتفال بليلة رأس السنة، يقول الثوار “ثورتنا ثورة مطالب محقّة، وهذا لا يمنعنا من الاحتفال في الأعياد”. وكيف تمنع الثورة الاحتفالات وهي بحد ذاتها عيد وطني أشعل نفوس اللبنانيين بالحب والحماسة والرغبة في ابتكار لبنان جديد يشبه أهله ولا يشبه الفاسدين الذين أمعنوا في التفريق في ما بينهم وإفقارهم وإذلالهم سنة بعد سنة؟ من هذه الأشجار نذكر شجرة “الثورة” التي نصبت في ساحة الشهداء وسط بيروت. حاولت بلدية بيروت أن تقنع الثوار باستخدام شجرتها، ولكن لم يوافق أحد منهم على اعتبار أنها رمز للفساد. فانطلقت فكرة إنشائها من الصفر بدعوة عنوانها “صفر ميزانية من المال العام”، ضمن حملة “ما إلنا غير بعض”، وكانت ثمرة لجهود مواطنين كثر من مختلف المناطق اللبنانية. شجرة شارك في ابتكارها مصمّمون، وفنانون وحرفيون.. شكلها النهائي عبارة عن خيمة كبيرة حملت أمنيات اللبنانيين بولادة لبنان جديد. وعلى جسدها اندمجت الكلمات، والأعمال الفنية والغرافيتي من مختلف المناطق اللبنانية. وفي أسفل الشجرة حائط للأمنيات ليكتب من يشاء أمنيته سواء بالكلمات أو بالرسم. وشكّل جوفُ الخيمة فراغا امتلأ بالرسومات. وقد قام الثوار ببناء هيكلها الحديدي في يوم واحد وبكلفة زهيدة. أما “حركة شباب البقاع” فقد ابتكروا شجرتهم الميلادية من عبوات المياه البلاستيكية المستعملة التي حوّلوها على شكل زهور متواضعة. وعبّر أحد الثوار عن رمزية الفكرة بقوله “شجرتنا رسالة جوهرها معناه أنه يمكننا إعادة تدوير المخلفات اليومية إلى فكرة ميلادية رمزية في خضم الثورة”. أما “شجرة الإطارات” فقد صنعها الثوار بعد أن قاموا بتجميع بقايا الإطارات والأسلاك الشائكة المحروقة وحوّلوها إلى شجرة ميلادية. وتحيل تلك الإطارات إلى تلك التي قُطعت بها الطرقات وأُحرق بعضها في عدد من الاعتصامات. نذكر أيضا “شجرة أبوالورد” الميلادية. وهذه لها قصتها الخاصة. انطلقت فكرة شجرته من حطامها فبعد أن قام عدد من مناصري الأحزاب بتكسير الخيام في رياض الصلح، تم تدمير خيمة أبوالورد، الذي قرّر أن يسكن الساحات ريثما تتحقّق مطالبه. ويسرد أبوالورد قائلا “وجدت نفسي من دون تفكير أجمع حُطام خيمتي المنكسرة في نفسها، أجمعها لتصبح شجرة ميلادية ولدت من الانكسار لتجسد رمزا. ووضعت على الشجرة أوراقا ليكتب المارّة عليها أفكارهم السلبية آملا في أن يتم سماع صوتنا.. فعندما ندرك أننا كلنا نعاني أو نمرّ بظروف صعبة.. عندها نتمسك ببعضنا البعض تمسكنا مرة أخرى بالحياة”. وتحضر “شجرة الطناجر”. فقرع الطناجر عند حلول الساعة الثامنة من كل ليلة بات أحد أيقونات الثورة. وكان من المفترض أن يتم إنجاز هذه الشجرة بمناسبة عيد الميلاد، غير أنها تحوّلت إلى “شجرة الشعب” لتكون حاضرة في كل المناسبات الاحتفالية كشهر رمضان المبارك، لتصبح رمزا وطنيا يجسد اللاطائفية والوحدة الوطنية. تم تغيير شكلها لتُشبه “شجرة العائلة” بعد أن طلب من المواطنين كتابة أسمائهم، مناطقهم وأمنياتهم للبنان على الطناجر. تعددت الأشجار تعدد طوائف لبنان وأكثر، ولكن لتكون ذات روحية واحدة خلدت معاني الأرزة التي تنتصف علم لبنان.
مشاركة :