في المقال السابق ذكرنا العديد من الشواهد القرآنية التي نزلت على قلب الرسول الأمين من لدن الحكيم العليم، لتعيد ما تم استلابه من الإنسان عبر تاريخ الرسالات، جاءت الشواهد لتكرس حرية الإنسان التي بها يكون الإنسان إنسانًا مسؤولاً أمام نفسه وغيره في الدنيا، وأمام ربه يوم المحشر، وهذه الحرية من أهم ما يتمايز به الإنسان عن غيره من الكائنات الأُخرى، ولأن مقالاً واحدًا لا يفي الفكرة حقها، ففي هذه السطور نسدل الستار تقريبًا على البديل القرآني للطغيان، الذي لا يُرجى منه خيرًا. لقد حُسم الأمر في سورة البقرة بأنه «لا إكراه في الدين» والترجمة الفعلية لمدلولات هذه الآية واضحة وجلية في الكثير من التعابير القرآنية في كل الكتاب الحكيم، وكما هو معلوم فإن الدين لا يحمل أدوات الإكراه، لذا نجد أن كل تعبيرات التحريم والأمر والنهي لا تحمل معنى الإكراه، فكثيرًا ما نقرأ «يوصيكم الله» «كُتب عليكم» أو لا تجسسوا، لا تقربوا، وهكذا بقية التعاليم القرآنية على هذه الصيغ التي تخلو من الإكراه. وكذلك العناصر الأساسية في الإسلام بدءًا من التوحيد «الإيمان بالله» واليوم الآخر والبعث والجزاء والغيبيات بشكل عام، نجدها معتقدات لا يُجدي معها إكراه أو إجبار، وكذلك منظومة القيم التي بثها القرآن لتكون دستورًا أخلاقيًا لمن يرتضي طواعية الدخول في دين الله، وما ينطبق على الاعتقاد والسلوك «العمل الصالح» ينطبق كذلك على الشعائر، كل ذلك تطبيقًا عمليًا لـ«لا إكراه في الدين» ففي هذه الآية إعلان صريح ومباشر من الله سبحانه وتعالى للإنسان بأن يستعمل حريته في الإقبال عليه أو الإعراض عنه. اللام الواردة في مطلع الآية «لا إكراه في الدين» هي لنفي جنس الإكراه في الدين وليست «لام» ناهية، والفرق واضح بين النفي والنهي، لصالح حرية الإنسان في المعتقد وكل ما هو دون ذلك، فتقر الآية بوجود إيمان بالله يقابله كفر بالطاغوت بمعنى من يكفر بالطاغوت وينحاز للإيمان بالله تعالى فقد استمسك بالعروة الوثقى، ولا يخفى على أحد بناءً على ما سبق أن الإيمان بالله لا يكون إلا تسليمًا كاملاً داخليًا رضائيًا ينتج عنه الطمأنينة، التي تُفرز الالتزام طواعيةً بالعمل الصالح بما فيه من تجنب للمحارم، والتزام شخصي حر بالأوامر والنواهي. أعطى القرآن كامل التوجيهات التي تُنتج الإنسان المسؤول عن اختياراته، والتي بناءً عليها تتم محاسبته وفق مقتضيات العدل الإلهي، ولكن الآية السابقة قابلت هذا الإيمان المؤدي إلى الاستقلالية والسعادة الأبدية، قابلته بالطاغوت، فالطاغوت من الجذر الثلاثي «طغى» وهي كما بينا في أول مقال تعني مجاوزة الحد في العصيان، والطاغوت في اللغة جاءت على وزن «فاعول بمعنى» استمرارية العصيان. من تجليات معنى الطاغوت هو التمادي وتجاوز الحدود في استعمال القوة بهدف قهر الآخر وإخضاعه لسلطانه وإرادته، وهذا هو الاستعباد بعينه، وهذه الحالة التي تمثلها فرعون، فهي ظاهرة موجودة عبر التاريخ الإنساني كله حتى يومنا هذا، وإن تغيرت أشكالها ومظاهرها خلال حُقب التاريخ المتعاقبة، إلا أن المشترك الباقي بين كل طواغيت الأرض هو التمادي في استعمال أدوات القوة لاستعباد الناس، وتحت سطوة هذه الأدوات تُبنى مصانع إنتاج العبيد. وهذا ما يدعونا للتفكر في استخدام لفظة -عباد وعبيد- في الكتاب الكريم، والتي تُقرأ على محمل التكريم الإلهي للإنسان، على اعتبار أن الحرية هي الأساس والقاعدة في عبادة الله، فلفظة عبد تُجمع «عباد» وتُجمع كذلك «عبيد» ويقول أهل اللغة ان الفعل «عَبَدَ» من أفعال الأضداد، فعبد الرق يعطي الطاعة عن يد وهو صاغر، وأما «عبدالله» فيحمل الضدين إما طاعة طوعية وإما عصيانا طوعيا، لذا فإن «عبدالله» تُجمع عباد، وعبد الرق تُجمع «عبيد» ومن خلال عرض هذا الرأي على القرآن بكيفية استعماله للفظين، يتكون لدى القارئ نوع من الراحة النفسية «الارتياح» لما ذهب إليه بعض المُفكرين وبعض أهل اللغة. «وهو القاهر فوق عباده...» 18 الأنعام، في هذه الآية الحديث عن العباد بالمعنى الشمولي للكلمة، وفي الآية 49 من سورة الحجر نقرأ قوله تعالى «نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم» الخطاب موجه إلى عباده العُصاة، أما في الآية 31 من سورة إبراهيم يخاطب الله عباده المؤمنين به الطائعين له «قل لعبادي الذين آمنوا يُقيموا الصلاة ويُنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية...» مما يُستنتج بأن الله حين يوجه الخطاب للعباد والعابدين فإنما يشمل الطائع والعاصي، وهناك شواهد أُخرى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر «قال الذين استكبروا إنّا كنا فيها إنّ الله قد حكم بين العباد» 48 غافر، وقوله تعالى «والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقًا للعباد...» 10-11 من سورة ق، هذا وقد وردت لفظة العبيد أثناء الحديث عن يوم القيامة، كقوله تعالى «... وما أنا بظلام للعبيد» سورة «ق» وقوله تعالى «... وما ربك بظلام للعبيد» سورة فُصلت، وقوله تعالى في سورة الحج «وأن الله ليس بظلام للعبيد» وغيرها من الآيات التي تنفي الظلم عن الله اتجاه العبيد يوم يحين الحساب، أما لفظ العبيد «الرقيق» لم يأتِ ذكرها سوى مرة واحدة في الكتاب الكريم في سورة النحل الآية 75 «ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء...». نخلص مما سبق تأكيدًا على الحرب التي شنها الله على الطغيان والاستعباد: أن الناس في الدنيا عباد مالكين لحريتهم طائعين أو عُصاة حسب الخطاب القرآني، والناس لا يملكون من أمرهم شيئًا يوم القيامة فكان اللفظ القرآني مركزًا على «العبيد» فمن يملك لنفسه شيئًا يوم يقوم الناس للحساب!! والرقيق بمعنى العبد في الدنيا لم يأتِ القرآن على ذِكرها سوى مرة واحدة، من كل ما سبق نستخلص مدى التشنيع والتنفير من العبودية في الدنيا، ومدى الحرص الإلهي على صون كرامة الإنسان من خلال صون حريته، وتحريره من قيود الطغيان بكافة أشكاله.
مشاركة :