الطغيان الفكري (2)

  • 11/15/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

استكمالاً لموضوع الطغيان الفكري نبدأ من حيث انتهينا في المقال السابق، حيث إن الحرية والخوف منها وعليها يتجاذبها طرفان، أحدهما مستفيد من غيابها فيرتعد منها فرقًا، فيحاربها بكل من أوتي من قوة، وآخر يعاني من غيابها فيجعل حياته من دونها منافحًا ومستبسلاً في تثبيت أركانها، عاملا بلا يأس لجعلها ثقافة سائدة في المجتمع، يقينًا من هذا الطرف بأهمية الحرية حين تصبح سلوكًا معاشا بين أفراد المجتمع بمختلف فئاته واهتماماته. ومن هذا المنطلق نقول إن الحرية الفكرية من أهم الحريات للإنسان والدول، وهي مما لا يُستغنى عنه في أي مجتمع يرنو إلى النهوض، فالإنسان يتطلع إلى العدالة، وحرية المعتقد والعبادة والقول والعمل، وبفقدها تتلبسه الخيبة والضجر ويتحول من منتمٍ إلى جماعة إلى متقوقع على ذاته، حاصرًا همّه بمصالحه الخاصة، فالإنسان لكي يحيا فإنه لا يحتاج إلى الخبز فقط، وإنما يحتاج أيضا إلى بيئة مفعمة بالحرية بالمعنى الشمولي لكلمة حرية، ففيها تدافع يؤدي إلى صلاح وإصلاح، ومن خلالها تصلُح مؤسسات الحُكم، ويزدهر القضاء، وينحسر الفساد إلى حدود ضيقة، وبها يزدهر العلم والفن. هذه الحرية، وهذا الفكر الحر مع ما ذكرناه من محاسن له، إلا أنه يعاني من العديد من المعوقات التي باتت محط اهتمام المُهتمين بهذا الشأن، وقد أشار بعض البحّاثة إلى جوانب من تلك المعوقات والكوابح التي تجر العربة إلى الخلف. وأبرز ما أشاروا إليه هو سطوة العقل الجمعي في المجتمع، الخانق المانع لكل اجتهاد وما ينتج عنه من جديد، وهذا مما لا يخفى على كل قارئ للتاريخ قديمه وحديثه، وعزا بعض الباحثين سبب جمود العقل الجمعي إلى سطوة الموروث البشري في المجتمعات ومنها المجتمعات العربية والإسلامية. اتصفنا نحن كأمة بالتغني بالعصر الذهبي للإسلام والاكتفاء بالماضي التليد، والوقوف عنده وانتفاء الرغبة في تجاوزه أو البناء عليه، وهذا يتنافى مع السنن التاريخية التي أشار إليها القرآن في أكثر من موقع، ويتحمل المسؤولية الأساسية في هذا هو النظام التعليمي التقليدي، القائم على الرأي الواحد، والذي يخلو من المناهج التي تُكسب متلقي العلم مبادئ الحوار وأصوله وآدابه، إن غياب ثقافة النقد والنقد الذاتي من أهم عوامل شيوع الطغيان الفكري. ومن الأسباب التي أسهب بها أهل البحث هي الترهيب الذي تلجأ إليه وسائل الإعلام لكل صاحب فكر جديد إذا خالف المألوف، بمعنى حظر التغريد خارج السرب، إما أن تتقن دور الببغاء، وإما الاغتيال المعنوي، وأحيانًا الاغتيال بالمعنى الحرفي لكلمة اغتيال، فرج فوده مثالاً، الذي تناول بالبحث قضية فرعية وجاء من بطون الكتب التراثية ما يردده دائمًا الذين أزهقوا روحه، متعدين في ذلك على من نفخ الله به الروح وهو المختص الوحيد بسلبها، بحجة مخالفة المألوف، وكذلك لا يغيب عن بالنا نصر حامد أبو زيد، والدكتور المهندس محمد شحرور الذي نعتوه بكل وصف سيئ، وتجرؤوا عليه والكثير منهم لم يقرأ له كتابًا واحدًا، مع أنه من وجهة نظر شخصية لم يقتحم ثابتًا من الثوابت، ولكنه اقتحم الموروث وأبطل الأساطير التي تسللت من الأُمم السابقة لتراثنا، وبالضرورة البديهية أنه قارئ لنص مقدس فلا بد من الصواب والخطأ أو النقص فيما توصل إليه، فلا أقل من الأخذ بما أصاب به الحقيقة ونقد موضوعي لما أخطأ به، وسؤالي دائمًا: ماذا نخسر لو طبقنا عليه مقولة «كل واحد يؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب هذا القبر» هذه النماذج وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها كانت ضحية الطغيان ووسائله القمعية. وأفرد بعضهم بحثًا خاصا لأثر ودور التنظيمات الإرهابية في إعاقة الفكر ومن أنها متأهبة دائمة واضعةً اليد على الزناد بلا تفكير وبلا رحمة لكل من يخالف تصوراتهم التي ارتضوها لأنفسهم، فلغة الحوار التي يمتلكونها للمخالفين هي نقل المخالف إلى العالم الاخر، ومع هذا يدعي حمايته للدين، لأنه كما يظن وكيل الله على الأرض، ولا داعي لذكر الشواهد على ذلك، لأنها أكثر من أن تُحصى. ولعِب الاستبداد السياسي «الطغيان السياسي» دورًا خبيثًا في تجذير الطغيان المعرفي لأنه يخدم مصالحه، وضمان بقائه وديمومته على سدة الحكم، ولا ننكر أن هناك قاعدة شعبية يحتمي بها النظام السياسي الطاغي، مطمئنًا لجهل السواد الأعظم منهم والعمل على ترسيخ هذا الجهل في نفوسهم، وأبرز وسائلهم في ذلك هو التشجيع على إقامة الشعائر، وحبسهم في هذا الإطار، وكأن الفكر ليس من العبادات الجليلة التي يُعبد الله من خلالها خير عبادة. والمجتمع الذي عاش وعايش محاسن الحرية، والحرية الفكرية بشكل خاص يذود عنها بالغالي والنفيس، ويترسخ في نفوس أفراده الخوف على الحرية، وليس الخوف من الحرية، وهذا ما نراه في الغرب عمومًا، بينما نرى خلافه في الشرق الذي مازال يخشى من الحرية، وإن بدأت هذه الخشية في الذوبان لكنها مازالت موجودة. وكلمتي الأخيرة في هذا الصدد والتي أرجو أن تكون خفيفة على قلوب كثير ممن يدعي حبًا ووصلاً بالقرآن والدين الذي دعا له القرآن، أنتم تتلون القرآن ولا تقرؤونه، فتلاوة القرآن أمر يسير وفي متناول كل مسلم، أما قراءته قراءة واعية لهي القراءة الشاقة التي تتطلب الجلوس ساعات وساعات تُقارن بين الآيات، وترتلها «تجمعها» في موضوعات لاستنباط درر القرآن والكشف عن معجزاته التي تتغنون بها في كل لحظة وحين، وأقول: أبدعتم بالخطابة المُسجّعة المُقفية الرنانة، وما أوليتم جواهر القرآن ومكنوناته الاهتمام الكافي، فإذا كان الأمر كذلك فلا أقل من التوقف عن محاربة من يجتهد في القرآن، طالما أنه لم يمس الثوابت التي أجمعت عليها الأمة، ووقفة بسيطة عند الآيات التي تتحدث عن العبادات «آيات الأحكام» التي لا تنوف عن مائتي آية ومقارنتها بالآيات التي تُشير إلى العلم والمعرفة والحرية والأخلاق والسياسة... الخ، لكفيلة بأن نعيد قراءة القرآن بين الحين والآخر ولا نفتح الجبهات على من يفعل ذلك، وذلك أضعف الإيمان.

مشاركة :