في اجتماع البرلمان التركي الذي وافق فيه على التدخّل العسكري في ليبيا، وفوّض الرئيس أردوغان في إصدار القرارات بإرسال الجنود الأتراك إلى القطر العربي الشقيق، كان واضحاً أن التوافق الذي صاحب القرار السابق بغزو شمال سوريا ليس موجوداً مع الأوضاع في ليبيا، وأن الانقسام واضح بين حزب أردوغان ومعه الحزب القومي من ناحية، وبين كل الأحزاب المعارضة التي تمثل جميع الأطياف السياسية، والتي رفضت أن تكون شريكاً في قرار التدخل في ليبيا، وحذرت من نتائجه الكارثية على الدولة التركية، مؤكدة أن القرار لا يصدر من أجل مصلحة تركية «كما يزعم أردوغان»، وإنما يصدر انطلاقاً من أوهام شخصية من جانب أردوغان، وجرياً وراء مخططات إخوانية تهدد الأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة في تركيا. بعد القرار، ومع ردود الفعل العربية والدولية التي أجمعت على رفض التدخل الأجنبي في الشأن الليبي، والتحذير المصري الحاسم من عواقب مثل هذه الخطوة غير المشروعة التي ستتحمل تركيا مسؤوليتها كاملة. ** كان الموقف يشتعل على الجانب الآخر من العالم العربي، وكان مقتل قاسم سليماني (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني) في بغداد يأخذ الصراع الأمريكي- الإيراني إلى منطقة بالغة الخطر. ووسط مناخ شديد التعقيد يتطلب الحكمة من كل الأطراف. كان هناك سؤال يتردد حول ما إذا كان أردوغان سوف يمضي في حماقته متوهماً أنه قادر على غزو ليبيا دون إدراك للكارثة التي يقود بلاده إليها، أم أنه سيدرك قبل فوات الأوان أن الأوهام في السياسة تقود إلى الجحيم، وأن الحسابات الخطأ لا يمكن أن تقود إلى نتائج إيجابية. يبني أردوغان حساباته الخطأ على أنه قادر على استغلال الانقسامات العربية ويتغافل عن حقيقة أن نفوذ حلفائه الإخوان هنا أو هناك ينتظر نهايته، وأن ما بدأ في مصر مع ثورة 30 يونيو لابد أن يكتمل. ** ويبني أردوغان حساباته الخطأ على أن وجوده العسكري في ليبيا سوف يمكنه من عقد الصفقات مع أوروبا لتقاسم النفوذ والثروات في المتوسط، ويتناسى أن هناك قانوناً يحكم علاقات الدول، وأن هناك أمناً واستقراراً مطلوبين ولا يمكن أن يؤمنهما بتحويل ليبيا إلى مستودع للإرهاب الذي بدأ بالفعل في شحنهم من سوريا عبر تركيا في عملية عكسية لما حدث مع المأساة السورية حين كان تدفق جماعات الإرهاب من ليبيا إلى سوريا مروراً بعاصمة السلطان الواهم وحلفائه الإخوان. ** ويبني أردوغان حساباته الخطأ على أساس ما قامت به قوى إقليمية أخرى بنت استراتيجيتها على مد النفوذ ومحاولة رفع أعلامها في العواصم العربية، يتصور أنه الطرف المعادل القادر على استعادة «إرث الجدود العثمانيين».. ولعله يدرك - قبل فوات الأوان - عواقب هذه الأوهام ونهايتها المحتومة!! ** ويبني أردوغان حساباته الخطأ على أنه قادر على أن يتلاعب بالجميع، وأن يستغل الصراعات الدولية لصالح أوهامه التوسعية.. وبدلاً من أن يدرك أن الكبار يستغلونه - كما غيره من الأطراف الإقليمية - لتحقيق مصالحهم، يتصور أنه قادر على أن يبتز الجميع وأن يفرض شروطه.. ولعله يدرك - قبل فوات الأوان - ماذا يفعل الكبار مع من ينتهي دورهم أو تتجاوز أوهامهم الخطوط المحددة لهم!! ويبقى السؤال: هل يمضي أردوغان في حماقته وهو يرى أن أوهامه في التوسع ستقوده إلى نهايته؟ وهل يفهم أن مد النفوذ بالقوة العسكرية والدجل المذهبي عواقبه وخيمة؟ وهل يرى أي فرصة للنجاة في معركة يقف فيها وحيداً مع حلفائه من جماعات الإرهاب ومن يمولونهم ضد العالم كله؟ هل يمضي الرجل في حماقته أم ينظر حوله ويفهم أن المنطقة ليست في حاجة إلى مزيد من إشعال النيران واحتدام الصراع، ويدرك أن ليبيا هي أرض شعبها العربي وليست إرث الجدود العثمانيين، ويستوعب الحقيقة الغائبة عنه وهي أنه - بتحالفه الإخواني وأوهامه العثمانية - قد ألحق ببلاده أفدح الأضرار، وأنه نسف كل جسور التفاهم والتعاون المشترك التي كانت قائمة بين بلاده والعالم العربي بعد أن جعل من نفسه داعماً للإرهاب، ووضع مستقبل تركيا في يد العصابة الإخوانية التي عاشت تاريخها كله توزع على صغار الحكام أوهام عودة الخلافة وإحياء العثمانية؟! يحتاج الأمر إلى قراءة صحيحة للمشهد، وهو أمر صعب على من ربط مصيره بمصير الإخوان ليتحول إلى راع للإرهاب يتوهم أنه الموعود بأن يكون خليفة المسلمين الذي يستعيد «إرث الأجداد»، هل يساعده على ذلك أن يدرك أن الخطر ليس بعيداً عن بلاده، وأن من يخططون لخوض معاركهم على أرض الغير سيجدون الحرب في شوارع مدنهم؟ ربما تكون الفرصة ضئيلة في أن يفعل ذلك. لكن ما جرى في البرلمان التركي والموقف الذي جمع كل الأحزاب - فيما عدا حزب أردوغان - على رفض الغزو التركي لليبيا والتحذير من عواقبه، يعطي الأمل في أن يصحح شعب تركيا الصديق الموقف، ويضع حداً للحماقة الأردوغانية التي تهدد تركيا نفسها قبل أن تهدد الآخرين. طباعةEmailفيسبوكتويترلينكدينPin InterestWhats App
مشاركة :