في كتابه «رواء مكة» ثم في «رباط المتنبي» وربما في غيرهما، وضح عمق الصراع بين الهُوية الأمازيغية التي ينتمي إليها المؤلف الباحث والسياسي المغربي الدكتور حسن أوريد عرقا وأرومة، والهوية العربية التي ينتمي إليها لغة وثقافة وهوية سياسية أيضا، وحتما فإن ما أشار إليه المؤلف في كتابيه ليعكس جانبا من حدة النقاش بين قوميتين أصيلتين في المغرب العربي بوجه عام، أولاهما القومية العربية التي حكمت الشمال الأفريقي منذ ابتداء العهد الأموي، وثانيتهما القومية الأمازيغية التي تعود بجذورها إلى فترة ما قبل الإسلام، حيث شعب البربر الذين دخلوا في حكم المسلمين طواعية على عهد القائد المولى أبي المهاجر بن أبي دينار، الذي تولى القيادة بعد عقبة بن نافع الفهري، فكان رؤوفا حنونا بهم من بعد جور وظلم عقبة وتنكيله بقياداتهم دون سبب معلوم، وهو ما أدى إلى ثورتهم عليه وقتله بعد ذلك في معركة تهوذة جراء إساءته لقائدهم كسيلة ولأبي المهاجر بن أبي دينار أيضا. خلال تلك المرحلة صور بعض المؤرخين ثورة البربر سواء الأولى بقيادة كسيلة، أو الثانية على عهد الخليفة هشام بن عبدالملك عام 122هـ، بأنها ثورة قامت بأساسها قومي، في حين أن محركها كان غير ذلك كليا، إذ لم تشكل الهوية القومية للبربر أي بعد سياسي، ولذلك كانوا متسقين مع الوجود الروماني قبل ذلك، وقابلين للانضواء تحت راية المسيرة العربية بهويتها المسلمة، ولكن ضمن إطار ما يتوجب من عدل وحفظ للحقوق، الأمر الذي أخر إعلان إيمانهم حتى أدركوا ذلك واقعا على عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، فدخلوا جميعا في الدين الإسلامي وباتوا أحد مشكلي هويته. في هذا السياق أشير إلى أنه لم يكن للعرب في القرون الميلادية الأولى وصولا للعقد الأول من القرن السابع تزامنا مع بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم سنة 611 أي هوية قومية بمفهوم سياسي، بمعنى أن يكون لجنس العرب وعرقهم امتياز خاص يحتم السمو سياسيا على أي عرق آخر، وفرض حكمهم عليه، حتى مع الوجود السياسي للمناذرة والغساسنة، الذي كان مشوبا بالضعف قبالة هيمنة الدولة الساسانية بقوميتها وحضارتها الفارسية، والدولة الرومانية بقوميتها وحضارتها الأوربية بوجه عام؛ ولعل ذلك راجع إلى انعدام الهوية الحضارية لهم خلال تلك الفترة، مثلهم مثل البربر في ذلك. لكن ومع ظهور الرسالة المحمدية عام 611م، وتسيد قيَمها ومبادئها وشعائرها أركان شبه الجزيرة العربية وما جاورها، أخذ الأمر في التحول، حيث بدأت معالم هوية قومية في التخلق جراء نزول الوحي بلسان عربي مبين، ثم ما لبثت أن اكتسبت صفتها السياسية مع البدايات الأولى لتشكل الدولة من بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عام 632، حيث تم تدريجيا إقصاء ما اصطلح على تسميتهم بالموالي (وهم المسلمون من غير العرق العربي الصريح) عن سدة القيادة والحكم، ثم تطور الأمر ليتم إقصاؤهم عن سدة إمامة الصلاة على عهد الحجاج الثقفي. وهكذا أخذت الروح السياسية تطغى على الروح الأممية الحضارية التي أراد النبي أن يعززها في رحم المجتمع، وكان بسببها حفيا بأولئك الموالي بقدر اهتمامه بالعرب الأقحاح، بل وأراد أن يعلي من شأن الكفاءة على العرق، فكلنا لآدم وآدم من تراب، والناس كأسنان المشط، ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، إلى غير ذلك من الأقوال التي هدف النبي من ورائها إلى تأسيس عهد جديد، يكون فيه العمل ووحدة الحضارة المعياران للرقي والتقدم، فكان لأجل ذلك حفيا بزيد بن حارثة وولده أسامة الذي ولاه القيادة العسكرية لجيش المرتدين وجمع تحت لوائه كل كبار قريش، وحفيا بسلمان الفارسي الذي جعله من أهله، وبلال الحبشي الذي خصه بالأذان، وبغيرهم ممن تم إقصاؤهم لاحقا حال تشكل مفاهيم الدولة القومية بمفهومها العرقي الضيق؛ تلك التي أفقدت الحضارة العربية زخمها مع مرور الوقت. ووصل بنا الحال لنشهد تشظيا في متنها مع تشكل القوميات بفعل خارجي خلال القرن العشرين الميلادي، وهو ما أراد الكاتب والسياسي حسن أوريد لأن ينبه لخطورته على مختلف الهويات المنضوية تحت لواء الثقافة المسلمة، التي ستتلاشى حال استبدالها للسانها الحضاري المبين. وأتصور أنها رسالة للقوميين العرب قبل غيرهم، مفادها بأن الرباط يكمن في اللسان وليس في غيره.
مشاركة :