تعود علاقتي بمالئ الدنيا وشاغل الناس أحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي إلى بدايات عقد الثمانينات من القرن الميلادي المنصرم، كنت في حينه في آخر المرحلة الإعدادية، وكنت أعيش حالة ثقافية فريدة من نوعها، حيث كان يجتمع في مجلس والدي يرحمه الله جمع من الأدباء والعلماء ممن قاسموه حيواتهم فيما مضى من أعمارهم، ومن رفاقه الذين اكتسبهم خلال بقائه بمدينة الطائف الخلابة بطبيعتها ومجتمعها في ذلك الحين. في تلك الفترة أيضا نشبت معركة أدبية على صفحات ملحق الأربعاء بجريدة المدينة، عميقة في مدلولها، راقية في معانيها، بين نخبة من الأدباء والمثقفين حول أبي الطيب المتنبي، وكان ممن رسخ في وجداني منهم في حينه الأديب والسياسي السيد أحمد بن محمد الشامي بحكم القرابة، والأديب والسياسي الشيخ عبدالعزيز التويجري بحكم العلاقة التي ربطته بوالدي وبغيره من جيل المثقفين من شتى أرجاء المملكة ووطننا العربي. ثم تجددت علاقتي بأبي الطيب مرات ومرات مع دخولي المرحلة الجامعية، حيث ما فتئ اسمه يتردد بين فينة وأخرى، ولا سيما بعد فوز الأديب المصري محمود شاكر بجائزة الملك فيصل عن دراسته حول المتنبي، وعرفت في حينه أنه ـ أي المتنبي ـ كان سببا في اعتزال الأديب محمود شاكر الحياة الجامعية وهو في السنة الثانية، حين دخل في نقاش علمي مع أستاذه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حول المتنبي، فكان أن أجابه أستاذه بجملة وفق السياق المصري استثارت نفس الطالب المعتد بنفسه ومعرفته، فغادر القاعة ولم يعد، ثم أصبح أحد أبرز الأدباء المصريين والعرب. وتستمر العلاقة بالمتنبي أيضا مع أحد أبرز رموز طبقة المثقفين في المملكة العربية السعودية، وهو العالم الفيزيائي والأديب اللوذعي الدكتور راشد المبارك، الذي دخل رباط المتنبي بكتابه الفلسفي «المتنبي ليس شاعرا»، وكأنه يقول بأنه كان أكثر من كونه شاعرا فحسب، وأذكر أن كتابه قد شكل محورا للنقاش المعمق بين نخبة الأدباء في المملكة بوجه عام، وضمن رواق أحديته الثقافية التي شكلت أحد أهم المرافئ العلمية والثقافية في المملكة العربية السعودية حتى وفاته يرحمه الله. على أني وبالرغم من كل ذلك، ومن حجم الاحتفاء بالمتنبي شاعرا وحكيما وإنسانا، ومع إعجابي به وإيماني بقدرته الفائقة على نسج الحروف والمعاني بشكل معجز، لكنَّ من استهواني منذ الصغر كان شخصا آخر، من سوء حظه أنه جاء في عصر المتنبي، إنه الأمير الفارس الحارث بن سعيد الحمداني المعروف بأبي فراس الحمداني الذي تشكل إيماني به منذ الصغر، ربما لحالة التماثل التي كنت أراها متجسدة معه وفيه، ولعلي كنت أهرب من واقعي إلى إرثي التاريخي بقراءة سيرته، واستنطاق معاني ودلالات قصائده. أعود إلى أبي الطيب لأعترف بأنه حقا كان معجزا في ألفاظه ومعانيه، شاغلا الخلق شتاها ويختصم؛ كان ذلك ما عشته مؤخرا وأنا أتلو رواية «رباط المتنبي» للأديب والمؤرخ والسياسي المغربي حسن أوريد، الأمازيغي العرق، العروبي الثقافة والمحتد اللغة والتعبير. في هذه الرواية الفكرية تمكن أوريد من أن يصيغ هوية المتنبي في عالمنا المعاصر، وأن يكشف عن بعض سره المكنون الذي هو جزء من تفرده الدائم، فكانت روايته نسيجا لوحدها في عالم الأفكار المتناثرة شرقا وغربا، حنى لكأني أجول في مقابسات شبيهة بمقابسات أبي حيان التوحيدي ولكن في عصرها الحديث؛ وهي أيضا مكتنزة بكثير من الخيال الأدبي الذي يُحيي أي نص روائي ويجعل قارئه شغوفا متابعا. وما أصدق تحليله لبعض سمات شخصية صاحبنا في نصه الروائي حين قال «المتنبي جُماع الشخصية العربية أو العبقرية العربية.. المتنبي لم يبزغ من أرض خلاء، بل هو نتاج لثقافة معبر عنها، وهي من أنجب المتنبي، وهي ذات البنية الذهنية القائمة». أخيرا، أرجو أن يجد أبناؤنا طريقهم إلى هذا النسق المحكم من الكتابات العربية، لنتمكن من إعادة بناء تكويننا الذهني بشكل قويم، ولعلنا نتمكن من بلوغ عصر نهضتنا بعد ذلك.
مشاركة :