منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، تزامنا مع اندلاع النزاع بين النظام الجزائري ومختلف التيارات الإسلامية تمهيدا لما أصبح يسمى بـ”سنوات الجمر”، أو “السنوات السوداء”، أصبح الإسلام بجميع قضاياه المتصلة خصوصا بالعنف، والجهاد المقدس، والحجاب والنقاب، وغير ذلك يشغل حيّزا واسعا وهاما في الجدل الاجتماعي والسياسي والثقافي والفكري والديني في فرنسا، بل وغالبا ما يكون في قلب المعارك التي تدور بين النخب السياسية، والفكرية. صدرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، عن كبريات دور النشر في باريس، العديد من الكتب المهتمة بمختلف قضايا الإسلام السياسي خصوصا بعد أن غزت الأفكار الأصولية المتطرفة ضواحي العاصمة والمدن الكبيرة حيث يكثر عدد المهاجرين القادمين من بلدان المغرب العربي، لتستقطب شبانا وشابات يتمتعون بالجنسية الفرنسية إلاّ أنهم لا يترددون في ارتكاب أعمال إرهابية ذهب ضحاياها العشرات من الأبرياء، ولا في الانضمام إلى الحركات الأصولية المتطرفة، مثل القاعدة وداعش، مرتكبين مجازر فظيعة في سوريا، وفي العراق، وفي مناطق أخرى من العالم. ومطلع العام الحالي، صدر عن دار PUF المرموقة كتاب يحمل عنوان “المناطق التي غزتها الأصولية الإسلامية”. وقد أشرف على هذا الكتاب الذي تضمّن العديد من الدراسات التحليلية بأقلام علماء اجتماع، وباحثين في قضايا الإسلام، بارنار روحييه وهو أستاذ في جامعة السربون الجديدة، ومدير للدراسات العربية والشرقية، وهوغو ميشرون، الأستاذ في دار المعلمين العليا الذي يشغل كرسي الشرق الأوسط المتوسطي. وجاء في مقدمة الكتاب أن ظاهرة الحركات الأصولية الإسلامية التي برزت في بلدان الشرق، وفي بلدان المغرب العربي قبل نحو أربعين سنة، والتي امتدت إلى أوروبا قبل عقدين، لم يتم إلى حد الآن البحث فيها ودراستها بشكل يتناسب وحجمها وقضاياها وتعقيداتها مقارنة ببريطانيا وبألمانيا وبالولايات المتحدة التي ازداد فيها الاهتمام بالحركات المذكورة بعد ضربة 11 سبتمبر 2001. كما أن الدراسات الميدانية لا تزال ضئيلة ولا تكاد تفي بالحاجة بسبب ندرة المختصين والباحثين. ويضيف كاتب المقدمة قائلا بأن جلّ الأبحاث والدراسات التي تضمنها الكتاب تهدف إلى إنارة الأسباب التي أدّت إلى توصل الحركات الأصولية إلى غزو ضواحي باريس والمدن الفرنسية الكبيرة، والتغلغل في أوساط الشباب المنتمي إلى الجيل الثالث والرابع من المهاجرين، وإلى فرض أفكارها المتطرفة المحرضة على العنف، وعلى “الجهاد المقدس”. ومن خلال الدراسات والأبحاث المنشورة في الكتاب المذكور، نتبيّنُ أن المؤلفين ركزوا اهتماماتهم على أربعة تيارات أصولية متمثلة في حركة الإخوان المسلمين التي لها أنصار في فرنسا، والسلفية، وحركة “التبليغ” التي ظهرت في الهند في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، وتسربت إلى فرنسا انطلاقا من الستينات من القرن ذاته، والجهادية التي ولدتها الحرب في أفغانستان. ويرى المؤلفون أن الحركات الأربع المذكورة تختلف في ما بينها لكنها تتوحد في مواجهة ما تسميه بـ”الأعداء الخارجيين” المتمثلين في اللائكية وفي الحركات النسوية وفي الأفكار العلمانية الداعية إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة. وتتفق الحركات الأصولية الأربع أيضا على تركيز جهودها على السعي لكي يظل المهاجرون المسلمون محافظين على معتقداتهم، رافضين لثقافة ونمط الحياة في البلدان التي فيها يقيمون، متمتعين بجنسيتها، ومتكلمين لغتها. وفي الكتاب أبحاث ميدانية أنجزت في الأحياء التي يكثر فيها عدد المهاجرين من أصول مغاربية تحديدا. وفي هذه الأحياء توصل دعاة متطرفون إلى نشر أفكارهم من خلال المساجد، ومن خلال منشورات تحرض على الجهاد المقدس ضد “الكفار واليهود”. وتعتبر مدينة تولوز من أكثر المدن الفرنسية تأثرا بمختلف الأفكار الأصولية المتطرفة. ومن أحيائها الفقيرة انطلق العديد من الشبان والشابات للمشاركة في القتال في البؤر الساخنة مثل العراق وسوريا. لذلك وصفها هوغو ميشرون بـ”مصنع الجهاد المقدس”. وكان عبدالقادر الشاذلي الذي كان من أخطر العناصر التابعة للحركات الجهادية في الجزائر، والذي قدم إلى فرنسا في أواخر التسعينات أول من زرع الأفكار الجهادية في تولوز ليتأثر بها محمد مراح مرتكب مجزرة تولوز. وفي شهر مارس2017، قام إمام مقيم بضواحي مدينة ليون الفرنسية بدعوة المهاجرين إلى عدم الاختلاط بالكفار لأن ذلك “يفقدهم أصولهم وهويتهم الدينية”، فيكونون “أعداء الإسلام” حتى ولو حافظوا على أداء فروضهم. كما حذر هذا الإمام من الزواج من الفرنسيات لأن هذا الزواج سوف يكون خطرا على الأبناء مستقبلا. وفي أبحاث أخرى نقرأ أن أغلب الذين انجذبوا في فرنسا إلى الحركات الأصولية المتطرفة كانوا في فترة ما من المنحرفين، ومن مرتكبي جرائم حوكموا بسببها، وأمضوا سنوات في السجن. وهذا كان حال شريف كواشي، العقل المدبر لمجزرة جريدة “شارلي إبدو” في شتاء 2015.
مشاركة :