تتصاعد مهددات الأمن القومي المصري ارتباطا بتصاعد المتغيرات والمهددات الإقليمية التي تشهدها المنطقة. ويضاعف هذه المهددات التدخل التركي في ليبيا، والذي يضاف إلى قائمة طويلة تبدأ من الوضع في سيناء وتشمل ما يحدث في سوريا والعراق واليمن والسودان وجنوب البحر الأحمر، ناهيك عن استفزازات أنقرة في شرق المتوسط. ويمثل هذا كله اختبارا حقيقيا لقدرة الدولة المصرية، ومؤسستها العسكرية، على تطوير سياساتها الدفاعية الإقليمية، والقدرة على الانتقال من مجابهة الإرهاب في الداخل إلى مواجهة التحديات الخارجية. وتتعرض الدولة المصرية لتحد مفصلي مع انخراط تركيا في الأزمة الليبية وتأثيراتها السلبية على الأوضاع الأمنية والاقتصادية نتيجة التوتر المتوقع في شرق المتوسط بما يهدّد رؤيتها لأن تصبح مركزا إقليميا للطاقة، بالإضافة إلى تعقد الحلول الدبلوماسية التي كانت تعوّل عليها لحل أزمة سد النهضة مع إثيوبيا. ويحمّل البعض من المراقبين الدبلوماسية الحذرة في التعامل مع قضايا الإقليم مسؤولية تعرض الدولة لأخطار خارجية مباشرة في الوقت الحالي. وقد أدّى غياب الفعالية في جملة من الأزمات ورفض القاهرة إقحام القوات المسلحة في هذه الصراعات إلى شغل أطراف إقليمية أخرى للفراغ الذي تركته. سياسة خارجية معتدلة على مدار السنوات الماضية وجدت القاهرة نفسها أمام خيارين، كل منهما يحمل مبررات منطقية للسير فيه. الأول سلكته بالفعل وما زالت تمضي فيه حتى الآن، وارتكز على الحضور الدبلوماسي، وتبني حلول سياسية للأزمات الإقليمية، ومكنها ذلك من بناء علاقات قوية مع أطراف متعددة، وقد يمهد ذلك لأن تصبح جزءا من الحلول المستقبلية لتلك الأزمات. ويقوم المسار الآخر على توظيف القدرات العسكرية في إنهاء جملة من الأزمات على حدودها والتي تشكل تهديدا لها. وهذا الطرح ظل مستبعدا مع التركيز على الأزمات الداخلية وبناء الدولة ارتكانا إلى عدم استقرار الأوضاع الأمنية في الداخل بما أثّر على تماسك البنية الأساسية للدولة. ويرى العديد من الخبراء الاستراتيجيين والسياسيين أن التجربة المصرية الحالية تحاول الاستفادة من تجارب بلدان آسيوية على غرار الصين واليابان وكوريا الجنوبية، تركز على البناء الداخلي والإصلاح الاقتصادي مع اتباع سياسة خارجية معتدلة تقوم على حماية السلام مع إسرائيل والعمل على حل التناقضات المصرية – الأثيوبية بالطرق السلمية، وإقامة شبكة كبيرة من التعاون مع دول الإقليم لخدمة عمليات البناء، وهو ما يمكن تسميته بـ”الكمون الاستراتيجي”. من وجهة نظر عبدالمنعم سعيد، مستشار المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، بات الكمون الاستراتيجي ضمن الأطر الحاكمة للسياسة الخارجية المصرية منذ عام 2015، وانصب تركيز الدولة على حماية الحدود، وانعكس ذلك على تعيين الحدود البحرية مع كل من المملكة العربية السعودية واليونان وقبرص. وأضاف لـ”العرب” أن النظام الحالي أدرك أن العيون الممتدة إلى الخارج أفقدت الداخل مركزيته ومحوريته في التفكير الوطني، وبالتالي فإن الحكومة شرعت في حشد المواطنين للداخل عبر المشروعات الكبرى وبدأتها بتفريعة قناة السويس الجديدة، ومثل ذلك تغيرا في الاستراتيجية المصرية التي ارتكنت إلى عوائد أدوارها الخارجية التي جاءت في شكل معونات ودعم عسكري. ورأى سعيد أن الوضع القائم سيستمر حتى العام 2030، لأن التجارب الآسيوية الناجحة اقتصاديا أخذت وقتا تراوح ما بين 15 إلى 30 عاما، والتحرك المصري الفعال سيكون في المناطق التي تشكل تهديدا مباشرا على الأمن القومي، ويميل إلى الشكل الدفاعي والردع بالأساس، وليس الهجوم. ويمكن ترجمة تلك الرؤية بأن استراتيجية التنمية المستدامة “مصر 2030″، قد تشهد تعديلا في بعض الخطط نتيجة الالتصاق الجغرافي والتداخل الديموغرافي في أزمتي ليبيا وسد النهضة، ويشمل حماية المصالح الاقتصادية في منطقة شرق المتوسط، وعدم السماح بتقليص حجم الحضور في تلك المنطقة. مناورات نوعية ظهرت ملامح هذا التغير من خلال إقدام القوات المسلحة المصرية، السبت الماضي، على تنفيذ مناورات وتدريبات عسكرية هي الأكبر على مدار العشر سنوات الماضية، مستخدمة شعار “الفتح الاستراتيجي”، الذي يتعارض مع نظرية “الكمون”. وحملت المناورات المصرية اسم “قادر 2020″، تستمر لعدة أيام وتنفذ على كافة الاتجاهات الاستراتيجية، برا وبحرا وجوا، بالتعاون بين كافة الفروع الرئيسية والتشكيلات التعبوية للجيش المصري، بمشاركة كافة الأسلحة الحديثة التي حصلت عليها مصر خلال السنوات الخمس الماضية، وشملت نقل عتاد عسكري وأفراد من مناطق تواجدها إلى بؤر مشتعلة في البحر المتوسط. وقامت القاهرة خلال العام الماضي بتنويع مناوراتها بعد أن نفذت 23 تدريبا عسكريا مشتركا و11 تدريبا بحريا عابرا، والمختلف هذه المرة هو تزامنها مع التصعيد التركي في ليبيا. وقال اللواء محمد الشهاوي، مستشار كلية القادة والأركان التابعة للجيش المصري، إن استخدام مصطلح “الفتح الاستراتيجي” يعني الاستعداد لانتقال قوات عسكرية من مكان إلى آخر. وشهد التدريب الأخير اختبار قدرة الجوانب المدنية على نقل المعدات والأفراد بسهولة إذا اقتضت الضرورة ذلك، وتطوير شبكة الطرق الداخلية وثيقة الارتباط بالاستعداد لأي خطر داهم على الحدود. وأضاف الشهاوي لـ”العرب” أن المناورات الحالية تعدّ بمثابة تغير نوعي في خطط واستراتيجيات القوات المسلحة المتبعة خلال السنوات الماضية، بعد أن ركّزت في السابق على التعامل مع الإرهاب وكيفية اختراق الخلايا الإرهابية وتدميرها، فيما تعتمد المناورات الحالية على مجابهة الأخطار التي تأتي من خارج الحدود وعلى جميع الجبهات الشمالية والغربية والجنوبية والشرقية في وقت متزامن، ما يعني احتمال أن تكون لديها أدوار استراتيجية أكبر من التي كانت تركز عليها غالبية تدريباتها في الأعوام الثلاثة الماضية. وتنعكس تلك التدريبات على تغير واضح في أبعاد المعادلة السابقة التي كانت تقوم على أن الأخطار التي تواجه الدولة تأتي من الجبهة الشرقية على الحدود مع قطاع غزة وإسرائيل، لكنْ هذه المرة هناك أخطار تأتي من جبهات متعددة، لأن الحدود المصرية المترامية مع ليبيا ملتهبة بفعل التطورات الأخيرة، وهناك خطر آخر يأتي من الجنوب انعكاسا للإخفاقات التي تواجهها مفاوضات سد النهضة، وآخر من الشمال نتيجة التحرش التركي المستمر في منقطة شرق المتوسط. وأكد اللواء علاء عزالدين، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بالقوات المسلحة سابقا، أن المناورات تعد رسالة للخارج تؤكد أن المساس بالأمن القومي المصري في تلك الجبهات سيواجه بقوة وحزم. وتوضح ذلك عبر مشاركة كافة التشكيلات التي ربما تقوم بمهام خارج حدود الدولة، وبالتحديد ناحية الحدود البحرية بالاتجاه الاستراتيجي الشمالي أو الشمالي الغربي. في المقابل، فإن التركيز الإعلامي على المناورات والأسلحة المشاركة فيها والتغير النوعي في الاهتمام بالقضايا الخارجية يحمل رسائل طمأنة داخلية أيضا، بعد أن واجهت الحكومة انتقادات عدة بسبب تخصيص الأموال والمساعدات لتحديث الجيش بدلاً من حل الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي عانت منها البلاد قبل ثلاث سنوات. وأوضح عزالدين لـ”العرب” أن التصعيد المصري لن يأخذ خطوات أبعد من ذلك في الوقت الحالي، ويتوافق ذلك مع الدبلوماسية التي تبني خطابها على لغة الدفاع وليس الهجوم، والوضع الحالي في ليبيا ليس بحاجة إلى توجيه قوات عسكرية إلى هناك، والتفكير في ذلك سيكون آخر الحلول، حال تدهورت الأوضاع، بما يمثل تهديدا مباشرا على الحدود الغربية. بوصلة التدخل العسكري يؤكد عسكريون على أن بوصلة التدخل المصري حددها الرئيس عبدالفتاح السيسي، في تصريحات لرؤساء تحرير الصحف المصرية منذ حوالي شهر، إذ قال إنه “لن يسمح لأحد أن يعتقد أنه يستطيع السيطرة على ليبيا والسودان وأن البلدين يعتبران في صميم الأمن القومي المصري”. ولفت اللواء رؤوف السيد، في تصريحات لـ”العرب”، إلى أن الموقف الحالي يشي بأن الدولة على أهبة الاستعداد لأي تحرك عسكري، غير أنها في المقابل تستفيد من الخيوط التي تمسك بها في ملفات عدة لتحريكها في الاتجاه الذي يضمن عدم الانزلاق نحو التدخلات العسكرية المباشرة، وأنها تعول على علاقاتها المتينة مع عدد من القوى الفاعلة في ليبيا، وبالتحديد لصد التحركات التركية في أي وقت. وذكر السيد، الذي يرأس حزب الحركة الوطنية، أن الجيش المصري يقدّم رسائل دعم إلى الأطراف التي تواجه التدخلات الخارجية في بلدانها، والمناورات الموسعة تهدف إلى طمأنة القوى التي تعمل على الأرض في ليبيا بالتحديد، بأن مصر لن تتوانى عن التدخل المباشر، إذا اقتضى الأمر. وشدد الرئيس المصري، في تصريحات سابقة، على أن بلاده “لن تتخلى عن الجيش الوطني الليبي”، والذي يقوده المشير خليفة حفتر في أعقاب إطلاقه “المعركة الحاسمة” للسيطرة على طرابلس وتحريرها من قبضة الميليشيات المسلحة. وبحسب السفير هاني خلاف، مساعد وزير الخارجية سابقا، فإن مصر تقوم بجميع الإجراءات التي تستهدف التضييق على الأطراف المعادية لها وعدم ترك الفرصة لها لأن تتحرك بحرية في مناطق نفوذها، ويتركز إجمالي هذه الإجراءات في بعض القرارات الاقتصادية والتحركات الاستخباراتية والعمليات الخاصة في حالة الضرورة دون الدخول بالقوات المسلحة وسلاحها الجوي في معارك ستؤثر بالسلب على الاقتصاد الذي بدأ يتصاعد حاليا. وأشار لـ”العرب” إلى “أن هناك توافقا رسميا بالحفاظ على مقدرات الدولة وفي القلب منها القوات المسلحة، وإذا جرى تدخل ما فإنه لن يكون بمعزل عن باقي الأطراف الإقليمية، بحيث لا تتورط مصر بمفردها في أي من المستنقعات الموجودة بالمنطقة، وستكافح الوجود التركي في ليبيا بجميع الوسائل التي تمتلكها من دون الانتقال الميداني للقوات المصرية إلى هناك”. وحسب رأي خلاف، فإن الدبلوماسية المصرية ماضية في كسب النقاط واحدة تلو أخرى في ليبيا عبر سياستها الحالية، لأنها استطاعت في النهاية أن تجهض المخطط التركي الذي سعى لتواجد شرعي هناك، وما زالت في الجبهة التي تحقق نجاحات عسكرية على الأرض. وعملت القاهرة على تضييق مساحات المراوغة على الجانب الإثيوبي، وتستهدف كشف المناورات للعلن وقد يعقب ذلك تصعيد على المستوى الأممي، واللجوء إلى القانون الدولي، من دون أن يكون هناك طرح للتدخل العسكري وهو أمر تنتظره إثيوبيا لتأكيد الصورة التي تحاول تسويقها تجاه مصر بأنها دولة معادية. تغيرات تناسب التطورات اتفق البعض من الخبراء المصريين على أن الموقف الحالي قد يشهد تغييرا يتناسب مع حجم التطورات في المنطقة ككل، وليس في ملفي ليبيا وسد النهضة فحسب، وأن استمرار سياسة المهادنة في ظل تطورات سريعة تشهدها المنطقة قد يؤدي إلى تجاوز الدور المصري من الأساس. وأكد طارق فهمي، الباحث السياسي في الشؤون الإقليمية، أن تطبيق نظرية “الكمون الاستراتيجي” يحتاج إلى أوضاع مستقرة في محيط الدولة بما يضمن نجاحها، وحجم التحديات التي تواجهها مصر في الوقت الحالي لا تستطيع معه تطبيق هذه النظرية أو التراجع عن الانخراط في الأزمات التي تحاصرها، في ظل تشابك الملفات العربية والإقليمية. وقال لـ “العرب” إن مصر تتعرض لتهديدات آنية في البحر المتوسط وعلى حدودها الغربية مع ليبيا، ويتعرض أمنها المائي لخطر داهم يهدد وجودها المستقبلي، وهي سياقات بحاجة إلى تطوير في الأداءين الدبلوماسي والعسكري أيضا. تتعرض الدولة المصرية لتحد مفصلي مع انخراط تركيا في الأزمة الليبية وتأثيراتها السلبية على الأوضاع الأمنية والاقتصادية نتيجة التوتر المتوقع في شرق المتوسط بما يهدّد رؤيتها لأن تصبح مركزا إقليميا للطاقة ولدى فهمي قناعة بأن النظام الدولي في الوقت الحالي بحاجة إلى أدوار مصرية فاعلة في المنطقة، في مواجهة تركيا أو إيران، بما يستلزم الإقدام على نقل رسائل ردع مباشرة إلى كافة الأطراف التي تتطلع إلى هذا الدور، وذلك يحتم على الدولة الانخراط بشكل أكبر في قضايا الإقليم ويحافظ على مصالحها. وأشار إلى أن تصاعد حجم التدريبات العسكرية وبالتحديد نحو المناطق الاستراتيجية البحرية يؤكد أن هناك تحركا مصريا مستقبليا يجري التخطيط له، وأن في تأسيس تكتل البحر الأحمر وخليج عدن مع المملكة العربية السعودية والأردن واليمن والسودان وجيبوتي والصومال وإريتريا، عبرا كثيرة، ويمكن أن يتصدى بشكل مباشر لأي تهديدات إيرانية أو تركية في البحر الأحمر. واتفق جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان، مع هذا الطرح وأكد على أن تدشين تحالفات سياسية في البحرين المتوسط والأحمر لا ينفصل عن إمكانية التدخّل بشكل فعال بكافة السبل لمنع التهديدات عن الدولة المصرية، ولن تقتصر فقط على الجوانب السياسية، لكنها تمتد إلى الخبرات التكنولوجية والاتصالية وتقديم الخبرات العسكرية، بما يمكن وصفه بأنه “أدوار معاونة عسكرية”. وكشف لـ”العرب”، أن القاهرة لن تقدم على تجاوز القوى الكبرى التي تنخرط في ملفات المنطقة، وستعمل على تنسيق الجهود معها سياسيا وعسكريا، وأن الأمر ينعكس على الملف الليبي الذي يحظى بتواجد روسي قريب من التوجهات المصرية، غير أن ذلك يتطلب رؤية متطورة تضمن الحفاظ على المصالح هناك، وهو أمر غير واضح، وربما تؤدي التطورات المتلاحقة إلى معرفة تفاصيله.
مشاركة :