لندن ـ من 1807 إلى 1843، كان سكان مدينة فرتنبورغ يلمحون متجولا فريدا يغادر بيتا بني على برج سور قديم، وتعوّدوا على رؤيته وهو يمشي متمتمًا بأبيات من الشعر الفرنسي واليوناني والألماني. هذا الرجل يدعى فريدريخهولدرلين، مؤلف رواية "هيبريون". هاجر إلى فرنسا عام 1801، ونشر إثر عودته ترجمات لسفوكليس أثارت سخرية غوته وشيلر، بسبب تصرفه في الأبيات الأصلية. ولما أدركت أمه أنه لن يكون قسّا أودعته مصحة نفسية طيلة أشهر. من هنا نشأت الأسطورة الرومانسية للشاعر المجنون، التي يضعها الكاتب والناشر الفرنسي بونوا شانتر موضع شك، إذ يتساءل ما إذا كان هذا الشاعر الكبير يريد قول شيء آخر، في النصف الثاني من حياته التي قضاها في الاستماع إلى جرس توبينغن. فهولدرلين، كآخر شعلة في التقاليد الصوفية التي أضاءت الليل الأوروبي وأول فنان مختل المدارك في ألمانيا، لا يمكن أن يُنصَت إليه في تلك المرحلة. ومن ثَمّ يدعو شانتر إلى إعادة قراءته كشاهد على نهاية عالم، والاستماع إلى درس صلابته وعناده. خداع الرأسمالية مستقبلنا سيكون من الثراء ما يجعلنا لا نهتم للديون المتراكمة، لأنها سوف تمحى بفضل الإنجازات القادمة. وإذا كان الإنسان كائنا مضرًّا أفسد الكوكب، فإنه سوف يتمكن بسهولة من إعادة بناء نفسه ومضاعفتها بفضل معجزات التكنولوجيا. تلك وعود الرأسمالية المضاربة، كما يشرح دوافعها وغاياتها بيير إيف غوميز أستاذ التصرف بالمعهد الأعلى للتسويق بليون في كتاب "روح الخداع الرأسمالية"، فقد لاحظ أن هذه الروح قد اجتاحت المجال المالي ثم الاقتصاد الحقيقي. وأخيرا المجتمع برمته، فقلبت رأسا على عقب العمل والاستهلاك والشركات والذهنيات والمعيش اليومي لتنتج مجتمعا ماديا محموما قانعا بمصيره. وفي كل أزمة، يدعونا إلى عقد الأمل في مستقبل ينقذنا، مع التأكيد في الوقت ذاته على أن الإنسان سيقصى إن لم يتكيف. ليفي ستراوس العالِم المتعدد بالتعاون مع اليونسكو، صدر كتاب "أن نفهم كلود ليفي ستروس" بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله، وقد ساهم في تأليفه عدد من كبار علماء الأنثروبولوجيا المعاصرة تحت إشراف نيكولا جورني. والمعلوم أن ليفي ستراوس (1909-2009) أنجز ما لم ينجزه إلا القليل من العلماء، فبالإضافة إلى مسيرته كإثنولوجي متخصص في القارتين الأمريكيتين، كان له حضور بارز ككاتب، ودور في اندلاع ثورة فكرية هي البنيوية. لم يكتف المساهمون بهذا الدور، بل أخضعوا إنجازه للنقد، لفهم اشتغاله على القرابة والأساطير وأنماط التفكير، وهو ما عبر عنه هو نفسه لتفسير دوافع استكشافه القبائل في أماكن قصية: «ما نبحث عنه بقربنا أو على مسافة آلاف الكيلومترات وسائلُ إضافية لنفهم كيف يعمل الفكر الإنساني». على ضوء هذه القناعة الأنثروبولوجية، التي تبين أن القريب يختفي في البعيد، تقاس آثاره وانتشارها، كما يقاس تأكيده على مخاطر الحداثة على الطبيعة، حسبما شاهد وعاين. دليل المناضلين من الكتب التي لا يمكن أن يستغني عنها أي مناضل "دليل النشاط السياسي" الذي وضعه الفيلسوف اليساري الأميركي مايكل فالزر عام 1971 عند اجتياح الولايات المتحدة كمبوديا، فصار دليلا عمليا وفكريا لكل راغب في الدفاع عن قضية من القضايا الحارقة، يجد فيه أجوبة عن مدى حظوة القضية بقبول واسع، وتخير ما يكون معقولا ومقبولا، وكيفية إقناع المعارضين، أو المختلفين داخل الشق الواحد... عندما وصل ترامب إلى الحكم، وأراد الطلبة الأمريكان تنظيم صفوفهم لمعارضة سياسته، قام أحد أساتذتهم بنسخ هذا الكتاب على الطابعة، لأنه نفد منذ مدة، فسألوه: "لماذا لا يوجد مثله في المكتبات، ففيه إجابة على كل الأسئلة؟". ولما شاع الخبر، بادرت مجلة نيويورك للكتب بإعادة نشره هذا العام، لأنه لم يفقد راهنيته، نظرا لتناوله قضايا غير محددة بزمن. ما يتبقى من الأنوار عادة ما يستحضر فكر الأنوار في الفضاء العام كصراع ضد الظلامية ينبغي فقط استعادة ما فيه، فكانت القراءات الشمولية تربطه بعبادة التقدم، والليبرالية السياسية وبكونية مفصولة عن جسدها. والحال أن فلاسفة الأنوار، كما يبين المؤرخ أنطوان ليلْتي في كتاب "إرث الأنوار"، لم يقدموا نظرية فلسفية متجانسة أو مشروعا سياسيا موحّدًا. لذلك يقترح إعادة النظر في فكرهم، من خلال قراءته لعدة مؤرخين معروفين وآخرين أقل شهرة، لكي يفي بما قدموه، أي جملة من الأسئلة والمشاكل، بدل فكر تجميعيّ جاهز ومطمئن. من هذه الزاوية، بدا فكر الأنوار كإجابة جماعية على ظهور الحداثة، لا يزال تعدده يشكل أفقنا الحاضر، من أسئلة فولتير عن التجارة الكولونيالية والاسترقاق إلى آخر تأملات ميشيل فوكو، مرورا بالنقد ما بعد الكولونيالي، وحيرة الفيلسوف أمام الجمهور. دوركهايم وسراب الخلاص ظل علم الاجتماع منذ انبثاقه في القرن التاسع عشر يهدف إلى مطمحين: تأسيس معرفة موضوعية عن المجتمع؛ ووضع هذه المعرفة لتصحيح مساوئ ذلك المجتمع. ورغم ما يبدو من تكاملهما فإن التوفيق بينهما صعب أحيانا. فعندما تسبق رغبةُ إعادةِ تشكيلِ المجتمع السعيَ إلى معرفتها، تكتسي النظريات الأكاديمية طابع رؤى للعالم تهدد بكسر الرابط بين الوقائع المؤكدة والتخمينات التفسيرية. وليس أدلّ على ذلك من أعمال دوركهايم التي لا تزال تعتبر تأسيسا لعلم الاجتماع الحديث. فقد قامت أساسا على وعد بخلاص علماني يتم عبر موارد العقل وحدها، فيما هي أخذت عن المسيحية فكرتيها الرئيستين: الاعتقاد بأن العالم البشري مصاب بداء يسيء إلى النظام الشرعي للأشياء، والأمل في أن هذا الداء يمكن أن يزول في يوم ما. تلك هي الفكرة الأساس التي يتناولها فيكتور ستوكوفسكي في كتابه "علم الاجتماع كرؤية للعالم: إميل دروكهايم وسراب الخلاص".
مشاركة :