الأسواق القديمة.. مرآة الحياة ومركز الأخـبار

  • 1/20/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تحفل الأسواق القديمة في إمارات الدولة بعبق التاريخ وحكاياته، ومنذ تشييدها لم يقتصر دورها على البيع والشراء، إنما اعتبرت وجهة أساسية لتبادل الثقافات وتفاعل الحضارات، وكانت منبراً للأخبار والشعر بين أبناء الإمارات، وملتقى للتعارف بالقادمين إليها. ويرى السياح أن زيارتهم للإمارات لا يكتمل وهجها من دون التجول في أسواقها والاطلاع على حرف ومشغولات قدامى سكانها ممن حفروا نمط عيشهم على جداريات لم تمح من الذاكرة. وعند استعراض ذاكرة المكان في مدينة أبوظبي، يتجه الحديث إلى السوق المركزي القديم القابع في مخيلة كل من عايش فترة البدايات، عندما شيد على يد المهندس المعماري المصري عبدالرحمن مخلوف عام 1968. ومع أعمال التوسع التي شهدها على مر السنين، بعدما كانت تعاملاته آنذاك بـ«الآنة» و«البيسة» (وهي عملات مجزأة من «الروبية»)، ومع تزايد عدد محاله بعدما بدأ بـ 200 دكان فقط، ذاع صيت السوق إلى خارج الدولة. ومع الوقت أصبح السوق مركز جذب لجميع من تطأ أقدامهم أرض العاصمة، حيث تتوفر فيه كل احتياجات الأسرة والأفراد وأصحاب المهن والخياطين والنجارين والحدادين والمنجدين وسواهم، وأجمل ما فيه بحسب روايات رواده المخلصين طريقة توزيع المحال ضمن أحياء شعبية. حتى أنه كان المحطة الأكثر تشويقاً للعائلات عند التخطيط للسفر، وكان أفراد الأسرة يقصدونه مع اقتراب موعد الإجازات للتسوق واختيار الهدايا المتفردة، ولشدة تعلق سكان أبوظبي بسوقهم التراثي، الذي ارتبط موقعه في قلب العاصمة بوجدان أكثر من جيل، كان القرار بأن يبنى مكانه برجان يضمان اليوم المركز التجاري العالمي والسوق المركزي الجديد، الذي صممه المعماري المعروف نورمان فوستر. طريق القوافل وفي مطلع ثلاثينيات القرن العشرين شهدت مدينة العين تشييد عدد من الدكاكين لتلبية احتياجات الناس، وسرعان ما اتسعت رقعتها ودخلت ضمن ما عرف لاحقاً بسوق «القطارة» الذي يعود إلى منتصف القرن الـ 20، وكان المقصد الأول لشراء السلع، ومع أن «القطارة» لم يكن كبير الحجم في وقته، فإنه لعب دوراً بارزاً في حياة سكان العين، وظل صيته ذائعاً إلى أن أعيد ترميمه عام 1976، ليصبح مقصداً سياحياً وقيمة إضافية لاستكشاف المدينة الهادئة. وكان محطة رئيسة على طريق القوافل التجارية وأفواج الحج، وعدا عن المهن الكثيرة فيه مثل الخياطة وحياكة السدو والتلي وصناعات الخوص، لعب سوق «القطارة» عدة أدوار مهمة، كدوره الثقافي من خلال لقاء التجار من بيئات مختلفة، مما ساهم في إيجاد عادات مشتركة بين مناطق الدولة، وكان السوق يضم زاوية لأحد المطاوعة، الذي يجمع حوله الطلبة لتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، ومن أقدم الأسواق التي عرفتها مدينة العين سوق «معروف». مقاهٍ عتيقة وتتنوع الأسواق القديمة في الإمارات ويعود أقدمها في دبي للعام 1830، بينها السوق الكبير في بر دبي، والسوق الكبير في ديرة «170 عاماً» على مقربة من واجهة الخور، وكان يعتبر الأكبر في المنطقة لكونه يضم 350 دكاناً. ويتخذ بموقعه دلالة على نشاط حركة التجارة البحرية منذ ذلك الزمن، ويطل السوق الذي ينسجم ببنيانه مع تصاميم البيوت قديماً، على مشهدية رائعة. ومع مرور السنوات، تحول السوق الكبير في بر دبي وعمره 190 عاماً إلى مجموعة دكاكين متراصة مغطاة بسعف النخيل ومشدودة بالحبال، يتجمع عندها «الشيبة» في جلسات مفتوحة عرفت مع الوقت بالمقاهي العتيقة التي شهدت على اتفاقيات الاستيراد والقرارات المتعلقة بأحوال الناس وما هو أبعد من دور السوق في أيامنا هذه، ومن الأسماء الراسخة على قائمة الأسواق القديمة، يحتل سوق «نايف» مكانة مهمة في مدينة دبي، وقد اتخذ اسمه بسبب وجوده حول قلعة «نايف» في منطقة ديرة، فيما كان يعرف سابقاً بسوق «الصنادق»، ومنذ افتتاحه تميز السوق ببضائعه المتنوعة وأسعاره المنخفضة، مقارنة مع أسواق أخرى، مما جعله الخيار الأول لكثير من الفئات الاجتماعية والجنسيات المتعايشة في الإمارات، وقد تمت إعادة بنائه بالكامل، وافتتح من جديد العام 2010 بتصاميم عصرية ممزوجة بطابع تراثي ينسجم مع الذاكرة. أحجار مرجانية وعلى عكس الدمج الذي تتبعه الأسواق الحديثة، بجمع ما تنوع من السلع في مركز تجاري واحد يضم المواد الغذائية والاستهلاكية والملابس وقطع الأثاث وسواها، كانت الأسواق القديمة على بساطتها متخصصة ويجد فيها الرواد كل ما يحتاجونه، وفي إمارة دبي التي ضمت منذ زمن بعيد أوسع أشكال التجارة وأكثرها من حيث عدد الأسواق، احتفظت الكثير من هذه المواقع ولفترات زمنية طويلة بهيئتها الأولية، وهي مبنية بالكامل من الأحجار المرجانية الملونة أو الصدفية، وتحرص بلدية دبي على ترميمها، ضمن المباني التراثية، بالمواد الأولية نفسها المستخدمة عند البناء، ومنها سوق «مرشد» لبيع الأقمشة من كل شكل ولون، وسوق «المناظر». عبق الصندل بالوصول إلى أسواق الشارقة، فإن أقدمها على الإطلاق سوق «العرصة» الذي يعود إنشاؤه إلى العام 1840 ومازال، حتى اليوم، الأكثر رواجاً واستقطاباً للسكان والسياح بقصد الاطلاع على تفاصيله واستكشاف دوره الحقيقي فيما مضى، وعدا عن كونه المركز التجاري البدائي لكل ما يحتاجه البيت العربي، حيث تفوح رائحة البخور وعبق الصندل، فهو الشاهد الحي على أسطورة الغوص بالموروث، وصيد اللؤلؤ والتداول به في صفقات تجارية واسعة يتبادلها تجار اللؤلؤ ممن لهم تواصل مباشر مع سفن الغوص. ويحلو تبادل الأحاديث من على مقاعد خشبية بسيطة، وسط أجواء متواضعة لا تمييز فيها بين فئات المجتمع المحلي وطبقاته، وتتفرع من الموقع مجموعة دكاكين متشابهة يتعايش أصحابها فيما بينهم، بحيث لا يعرف الزبون ممن يشتري ولا يفرق بين مستلمي النقود، وإنما يتعامل مع الجميع من مبدأ أمانة الكبار ومصداقية الموقف، وقديماً كانت تشهد بسطات البيع في «العرصة» أصناف الفواكه، مثل الموز والمانجو والتمور الآتية من عدة مصادر، أبرزها منطقتا الزيد ومسافي. ويتوافد الناس على شرائها بعد مرورهم بالسوق «الإسلامي» الذي اتخذ اسمه من عمارته العريقة المصممة لتضم عدة حوانيت متلاصقة، تعلوها أبراج الهواء التقليدية، وتبيع كل ما يخطر في البال من مفردات العيش ومستلزمات البيت المتداولة وقتها. ومع مرور السنوات، اتسع بناء الأسواق في إمارة الشارقة، واستمر التشييد بالطريقة نفسها حتى عام 1960، ومما عرف منها لاحقاً، سوق «الفرضة»، سوق اللؤلؤ «الطواويش»، سوق الحرير، سوق الذهب، سوق الملابس، سوق السمك وسوق الأطعمة. نقاط العبور «جلفار»، الاسم الذي عرفت به إمارة رأس الخيمة قديماً، التصق بالأسواق القديمة التي انتشرت على الساحل القديم، في واحدة من أهم نقاط العبور عند مدخل مضيق هرمز، حيث لعبت المكانة الاقتصادية دوراً بارزاً في حياة الأولين، ويروى أن تاريخ الأسواق في «جلفار» شهد رخاء انعكس على المشهد العمراني في الإمارة التي زارها عدد كبير من أصحاب المال والنفوذ لاستيراد اللؤلؤ، مما أدى بشكل واضح إلى بناء المساجد والقلاع. ولأن الطبيعة الجغرافية للمنطقة هنا تستدعي تقسيمها إلى بيئات أهل الجبال وأهل البيادير «سكان المناطق الزراعية» والبدو «سكان الصحراء» والحضر «سكان السواحل»، فقد توزعت الحوانيت الصغيرة في كل مكان، ولم تتخذ بوقتها صفة الأسواق لأنها سرعان ما اندثرت مع الوقت، وظل منها سوق «جلفار» المزدهر حتى القرن السابع عشر، مع تقدم إمارة رأس الخيمة بمينائها وأسواقها. وفي مطلع القرن العشرين أصبحت أسواق رأس الخيمة تعرف بـ«البانيان» تيمناً بالتاجر القادم من الهند وبلاد فارس، وكانت قائمة على تجارة اللؤلؤ الذي شبهه بنفط ذلك الزمن. وكان «الطواش» أو تاجر اللؤلؤ الحمولة، يتسلم الحمولة ويبيعها لـ«البانيان» مقابل العملات الرائجة. من المعالم البارزة تمثل الأسواق القديمة في رأس الخيمة شكل الحياة الاجتماعية بتفاصيلها وتعتبر من المعالم البارزة، التي يقبل عليها الجميع لكونها مقصداً أساسياً لا عوض عنه، فقد كانت تقع في منطقة لا يتجاوز طولها كيلومترين وعرضها نصف كيلومتر، وتضم كل احتياجات المدينة من مأكولات وملبوسات، وبعضها متخصص مثل سوق الصاغة، وسوق الحلوى، وسوق التمر، وسوق «السخام»، وسوق العطارين، وسوق «المضرب» لصناعة الأثاث، وسوق «الحبال» لمتطلبات البر والبحر من أدوات صيد ومعدات زراعة. مشهد متكرر بالوصول إلى عجمان وأم القيوين والفجيرة، فإن المشهد يتكرر بانتشار الأسواق التي بدأت على شكل دكاكين صغيرة تتقارب أحياناً وتتباعد، فيما انتهت في أيامنا هذه إلى منصات عرض مفتوحة، تضم بمعظمها الفواكه والخضار الطازجة وتعرف غالباً بأسواق «الجمعة». ومما انطبع في ذاكرة أهل البلاد وزوارها عن أسواق الإمارات أنها تتماهى معمارياً مع البيئة في مشهد تراثي موحد، وقد تأثرت على مدى عقود بالنشاط اليومي للناس، باتجاه ساحات العرض الضاجة بأصوات التجار ونبض الأحياء.

مشاركة :