دخلت الاحتجاجات العارمة الجارية في العراق منذ أكتوبر الماضي مع اقترابها من إكمال شهرها الرابع، منعطفا جديدا من التصعيد عكس إصرار المحتجّين على وضع حدّ لأسلوب المماطلة وكسب الوقت الذي تمادى نظام بغداد في اعتماده تهرّبا من المأزق الحادّ والانسداد السياسي الذي يواجهه بفعل العجز عن اختيار رئيس جديد للوزراء يسدّ الفراغ الذي أحدثته استقالة عادل عبدالمهدي من المنصب. وبدأت، الأحد، ملامح التصعيد في الحركة الاحتجاجية والدفع بها إلى حالة من العصيان المدني، وذلك ساعات قبل انقضاء المهلة التي منحها المحتجّون للسلطات للاستجابة لمطالبهم والتي تنتهي الاثنين 20 يناير الجاري. ويترافق ذلك مع مخاوف من موجة تصعيد مضاد في عملية قمع المحتجين التي تشارك في التخطيط لها وتنفيذها إلى جانب القوات الأمنية، الميليشيات الشيعية التي تأتمنها إيران على حراسة نظام الأحزاب الطائفية القائم في العراق والموصوف بالتبعية لطهران، وحمايته من الانهيار. وتتركز المطالب في وجه العموم على تكليف شخص مستقل ونزيه بتشكيل حكومة من الاختصاصيين غير الحزبيين تمهد لانتخابات مبكرة، إضافة إلى محاسبة قتلة المتظاهرين والمتورّطين في اختطاف الناشطين والتنكيل بهم. وقال المحتجون في محافظات جنوب العراق في بيان إنّ “الحكومة وأحزابها ما زالت مُصرة على المماطلة والتسويف وعدم احترام إرادة الشعب العراقي المطالب بحكومة وطنية حرة تحفظ للبلد سيادته وللشعب كرامته”. وأضاف البيان “ثبت لدى الجميع أن هذه الطغمة السياسية الفاسدة لن تكترث إلّا لمصالحها ومصالح أسيادها شرقا وغربا”، وشدّدوا على إمهالهم المسؤولين في البلد حتى الاثنين لتكليف مرشح مستقل لتشكيل الحكومة المقبلة، وإلّا فإنّهم سيصعّدون الاحتجاجات على نحو غير مسبوق. ومن الخطوات التصعيدية التي لوّح بها المحتجّون “قطع الطرق الرئيسية بين المحافظات بتوابيت الشهداء وبأجساد الثوار”، إضافة إلى “خطوات أخرى يعلن عنها في حينه”. وسيكون شلّ الحياة العامّة وتعطيل المرافق العمومية، بما في ذلك تعطيل منشآت استخراج النفط وقطع طرق نقله، مؤلما على نحو خاص للسلطات العراقية التي تواجه صعوبات في توفير الموارد الكافية لإدارة شؤون الدولة في ظل ضعف الاقتصاد وارتهانه لعائدات النفط فضلا عن إنهاك المالية العامة للدولة بالفساد وسوء التصرّف. وأقدم متظاهرين، الأحد، على قطع الطريق المؤدي إلى مستوع الفاو النفطي بمحافظة البصرة ونصبوا خيام اعتصام ومنعوا الموظفين من الوصول إلى أماكن عملهم. وذكر شهود عيان أن المتظاهرين منعوا الشاحنات والسيارات من التنقل على طريق الموقع النفطي الذي يضم خزانات نفط عملاقة. مخاوف من تصعيد قمع المحتجين نظرا لضيق خيارات السلطات وعجزها عن الاستجابة لمطلب الإصلاح الشامل والتحق الآلاف من طلبة الجامعات والمدارس بالمحتجين في ساحات التظاهر، وسط استمرار مقاطعة الكثير منهم للدوام دعما لمطالب الحراك الشعبي. وقام محتجون بعد منتصف ليل السبت الأحد، بحرق مقر لكتائب حزب الله العراقي قرب جسر الإسكان في مدينة النجف، وذلك في عملية استهداف مباشرة لنفوذ إيران في البلاد بالنظر إلى أنّ هذه الميليشيا من أهم الأذرع الإيرانية المسلّحة داخل العراق. وفي قضاء الكوفة أضرم محتجون النار في مكتب رئيس كتلة النصر النيابية عدنان الزرفي الذي سبق له أن شغل منصب محافظ النجف. ويقود هذه الكتلة التي تمثل ثالث أكبر الكتل في البرلمان العراقي رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي. كما عمد المحتجّون، صباح الأحد، إلى قطع طرق رئيسية ومحاصرة دوائر رسمية في مدن وبلدات بمحافظات جنوبي البلاد. وفي العاصمة بغداد شهدت ساحتا قرطبة والطيران، صباح الأحد، توترات ومصادمات بين القوات الأمنية ومتظاهرين ما دفع القوات الأمنية إلى إطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع ما أدى إلى تسجيل عدة حالات اختناق بين المتظاهرين. وفي مدينة النجف، أفاد مصدر أمني لوكالة الأناضول أن متظاهرين أغلقوا عددا من الطرق أمام حركة السير وسط المدينة. وقال المصدر إن المتظاهرين قطعوا الطرق في مناطق المعهد الفني وجسر الرضوي وقرب مستشفى ابن بلال أمام حركة السير بواسطة الإطارات المشتعلة. وفي محافظة ذي قار قطع المحتجون عددا من الجسور وتم التعطيل التام للدوام في الناصرية مركز المحافظة. وقال ناشط مدني ضمن المتظاهرين إن المحتجين قاموا بقطع تقاطع البهو وسط المدينة، قبيل انتهاء المهلة التي حددها المحتجّون. وتستعيد الحركة الاحتجاجية العراقية بهذه التحرّكات زخمها بعد تراجع نسبي بعد عملية الاغتيال التي نفذتها القوات الأميركية لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهند بغارة جوية خارج مطار بغداد الدولي. وحاولت الأحزاب والميليشيات الشيعية تجيير الحدث لمصلحتها بتجييش الشارع ضد الولايات المتحدة وصرف الحراك الاحتجاجي بعيدا عن مطالبه التي تتضمّن إنهاء السطوة الإيرانية على القرار العراقي، لكنّها فشلت في ذلك. وقال أحد المتظاهرين في بغداد لوكالة فرانس برس إنّ “هذا التصعيد هو البداية.. نريد إيصال رسالة إلى الحكومة بأن المهلة ستنتهي الاثنين وتخرج الأمور عن السيطرة”. وتابع مخاطبا الساسة “لا تماطلوا لأن الشعب واع”. وقال حيدر كاظم الذي كان يتظاهر في الناصرية بجنوب العراق “بدأنا من الآن التصعيد لعدم استجابة الحكومة لمطالبنا”. وأضاف “حددنا مهلة سبعة أيام، منذ الاثنين الماضي تنتهي هذه الليلة، نريد تشكيل حكومة مستقلة قادرة على إنقاذ العراق”. وقالت الطالبة آيات موفق أثناء مشاركتها في الاحتجاجات بالنجف “خرجنا تأيدا للاعتصامات.. نطالب برئيس وزراء عادل وغير حزبي”. وأضافت “نحن نريد وطنا يحتوينا مثل باقي الشعوب وسنستمر في هذه التظاهرات إلى أن تتحقق المطالب”. وفي ظلّ انعدام الخيارات أمام النظام العراقي وفشل مختلف مناوراته لإنهاء الحركة الاحتجاجية، يرجّح مراقبون تماديه في خيار القمع الذي انتهجه وقد أوقع بالآلاف من الضحايا بين قتلى وجرحى.
مشاركة :