مهد قادة ميليشيات عراقية تدين بالولاء لإيران إلى تبديد ما تبقى من شكل الدولة العراقية على ضعفها عبر الإعلان بشكل واضح لتكوين هو البديل السياسي والعسكري للحكومة العراقية. ويؤكد زعماء الميليشيات العراقية الموالية لإيران أن التظاهرات التي شهدتها بغداد الجمعة ضد الوجود العسكري الأميركي في البلاد، هي مجرد مقدمة لما يمكن أن يحدث من مراحل لاحقا، أولها الاعتصام الشعبي، وصولا إلى استخدام السلاح لطرد القوات الأميركية بالقوة. واحتشد الآلاف من أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر وعناصر الميليشيات العراقية الموالية لإيران في بغداد الجمعة للمطالبة برحيل القوات الأميركية، في وقت تستمر فيه الاحتجاجات الشعبية في 11 مدينة عراقية ضد فساد الطبقة السياسية الخاضعة لطهران. ولا يتردد عدنان فيحان، رئيس كتلة صادقون المكونة من 15 مقعدا في البرلمان العراقي، وهي الذراع السياسية لحركة عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، إحدى أقوى الميليشيات الإيرانية في العراق، في الإقرار بأن “الدولة ضعيفة، وخبرة الفصائل وإمكاناتها العسكرية أكبر”، وذلك في سياق التعليق على مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس في غارة أميركية قرب مطار بغداد. ويتساءل فيحان، وهو قيادي ميداني متهم بأعمال عنف طائفية في الأعوام السابقة قبل أن ينال حصانة البرلمان في 2018، “أين هي الدولة حتى ترد على مقتل المهندس؟”، مضيفا أن “الدولة أضعف من أن ترد”. ورغم أن حركة العصائب التي ينتمي إليها فيحان تملك ثلاث وزارات في حكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي، فإنه قال إن “الفصائل” العراقية المسلحة الموالية لإيران، أقوى من الحكومة، على المستوى العسكري، متعهدا بـ”ردّ مزلزل” على مقتل المهندس. ولدى سؤاله عن مصير الخزعلي زعيم الحركة، أقر فيحان بأن الإجراءات الخاصة بضمان سلامته تغيرت، بعدما تحول إلى مطلوب كبير في أعقاب مقتل سليماني والمهندس، لكنه ما يزال داخل العراق. ومنذ مقتل سليماني والمهندس، لم يظهر الخزعلي على الأرض إلا مرة واحدة في مدينة النجف للمشاركة في تشييع القتيلين، بعد اتخاذ إجراءات احترازية في الموقع، من بينها تمويهه بالمئات من المسلحين الذين يرتدون الزيّ نفسه الذي يرتديه. ومنذ ذلك الحين، يظهر الخزعلي في تسجيلات مصوّرة، من دون معرفة المكان الذي يقيم فيه، وسط تأكيدات بأنه غادر إلى إيران بعد المشاركة في تشييع سليماني والمهندس مباشرة. وبشأن التظاهرات التي دعا لها مقتدى الصدر في بغداد وشارك فيها معظم عناصر الميليشيات الموالية لإيران في بغداد الجمعة، قال فيحان، إن الهدف منها إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، مؤكدا أنها قد تتحول إلى اعتصام شعبي مفتوح في حال رفضت الولايات المتحدة هذا الأمر. وذهب فيحان إلى أن الفصائل الموالية لإيران ستستخدم السلاح لإخراج القوات الأميركية من العراق إذا لم يحدث هذا بشكل سلمي. واعتبرت مصادر سياسية عراقية أن الصدر ارتضى لنفسه هذه المرة أن يكون واجهة للأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، لأنها مَن نظّم تلك التظاهرات ودعا لها. واعتبر برلماني عراقي ذلك التحول بأنه ذو دلالة سياسية عميقة. فلطالما رفع الصدر استقلاليته في مواجهة الأحزاب وها هو اليوم يقدم نفسه باعتباره ممثلا لها في مواجهة الاحتجاجات التي يعد التشويش عليها هدفا رئيسا لتظاهرات الأحزاب. وقال البرلماني في تصريح لـ”العرب”، متحفظا عن ذكر اسمه لأسباب أمنية “التظاهرات مؤشر على مرحلة قد تكون الأخيرة في حياة الصدر السياسية غير أنها الأخطر. ذلك لأنها وضعته في سلة واحدة مع زعماء الميليشيات الموالين لإيران بعيدا عن الشعارات الوطنية التي كان تياره يرفعها. وفي كل الأحوال فإن منظمي التظاهرة الكبار لن يكونوا موجودين ذلك لأنهم توزعوا بين إيران والأقبية السرية التي اختبأوا فيها”. واستبعد أن يفكر أيّ من قادة الميليشيات في الاقتراب من محيط السفارة الأميركية بعد الدرس البليغ الذي تلقوه بمقتل سليماني والمهندس. واتخذت التظاهرات الحزبية طابع التحدي لمشاعر الشعب العراقي الذي يطالب منذ أكثر من ثلاثة أشهر بإنهاء نظام المحاصصة الطائفية وفك الارتباط بإيران. وبدا واضحا أن تظاهرات الجمعة جاءت للتغطية على عجز الأحزاب عن الخروج من أزمة الحكم التي تعيشها بعد أن صارت في مواجهة استحقاقات اتسعت بعدها الهوة التي تفصلها عن المطالب الشعبية. ومن المستبعد أن تستمر تلك التظاهرات، لأنها مسيّرة لغايات استعراضية كما أنها عالية التكلفة بسبب عزوف شعبي عن المشاركة فيها. ذلك لأن جزءا كبيرا من التيار الصدري لم يعد مقتنعا بتحولات زعيمه الذي سيكون هذه المرة الخاسر الوحيد. ودعا الصدر في كلمة تُليت نيابة عنه خلال التظاهرات إلى إلغاء كافة الاتفاقيات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة الأميركية لغياب التوازن فيها ولأنها أقرّت بوجود الاحتلال الأميركي للعراق. وطالب بخروج القوات الأميركية والأجنبية من العراق و”غلق مقرات الشركات الأمنية الأميركية وإنهاء عملها في العراق وغلق الأجواء العراقية أمام الطيران الحربي الأميركي والاستخباراتي”. ولم يستبعد صلاح العبيدي المتحدث باسم الصدر، إمكانية اللجوء إلى الخيار المسلح لإخراج القوات الأميركية من العراق. وقال العبيدي إن “جميع الخيارات مفتوحة في حال عدم استجابة واشنطن لقرار إخراج قواتها من العراق”، مشيرا إلى أن “الخطوات الشعبية تأتي بموازاة الإجراءات البرلمانية الخاصة بإخراج القوات الأجنبية”. ويعتقد المتحدث باسم الصدر، أن “خروج القوات الأميركية مطلب شعبي قبل أن يكون قراراً برلمانيا”، لكنه قال إن “الحديث عن عقوبات أميركية محتملة تجاه العراق، في حال خروج القوات من العراق، ينطوي على الكثير من التهويل”. عمليا، لا يمكن تصور وجود فصيل سياسي شيعي يعترض في هذه اللحظة على قرار إخراج القوات الأميركية من العراق، لكنه في الحقيقة موجود، وإن كان صوته خافتا. ويجاهر ائتلاف النصر، بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، بأن توقيت قرار خروج القوات الأميركية من العراق ليس مثاليا، إذ ما زالت البلاد بحاجة إلى مساعدات عسكرية كبيرة. والعبادي، هو أحد القادة التقليديين لحزب الدعوة الإسلامية، أعرق الأحزاب الشيعية العراقية، ذات الخلفية الدينية. ويقول عدنان الزرفي، القيادي البارز في ائتلاف النصر، إن “إخراج القوات الأجنبية من العراق قد يخلق فراغا أمنيا لا يسد”، مشيرا إلى أن “وجود القوات الأجنبية في العراق ضمانة لتواجده في المنظومة الدولية”. ولا يريد الزرفي أن تتكرر تجربة العراق في إخراج القوات الأميركية العام 2011، عندما استغل رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي حقيقة انفراده بالمشهد العراقي لتصفية خصومه السياسيين من الكرد والسنة، ما تسبب لاحقا في توفير بيئة مناسبة لنشوء تنظيم داعش، وما جره على البلاد من نكبات. وقال الزرفي إن “قرار إخراج القوات الأميركية من العراق في عام 2011 لم يكن مدروسا”، مذكرا بأن التغيير الذي شهده العراق العام 2003 لم يحدث لولا التدخل الخارجي، الذي سمح للأحزاب الحالية بالوصول إلى السلطة.
مشاركة :