ثمّة استراتيجيات حاسمة تنطلق منها الولايات المتحدّة في سياساتها، خاصة بعد نجاحها البارز في السيطرة على قلب العالم، وتفكيك عقل العالم، وإلحاق أطراف العالم بها وبمصالحها، إلاّ أنّ التطلّعات الجديدة لأمريكا هي الدافع الأكيد لما تقوم به، ما يوضّح خطواتها المعلنة للقاصي والداني، بصلافة وحزم ووقاحة. وتتمثّل هذه التطلّعات التي تعد قرارات لا مندوحة عنها في أن أمريكا يجب عليها أن تسبق العالم المتقدّم في كلّ المجالات 15 سنة على الأقل، وعلى العالم أن يتفهّم حاجة أمريكا للقيام بضربات استباقية ضد بعض القوى أو الدول على هذا الكوكب لحفظ أمنها القومي. كما على العالم أن يدرك أهمية أن تتدخل أمريكا في أية قضية في الأرض، ويتم الأخذ بتوصياتها ومداخلاتها لحلّ هذه القضية، كما أن على شعوب الأرض أن تبدأ بالاستعداد لقبول القيم والأفكار والمبادئ والثقافة الأمريكية، وتتبنّى تفسيراتها للمفاهيم البشرية. كما على أمريكا أن تحفظ لإسرائيل تقدمها وتميّزها النوعي في المنطقة. إن هذه القرارات تعني أن ثمّة طوفاناً هائلاً يهدر ويقترب ليجرف ثقافات الشعوب، خصوصاً تلك الضعيفة، علماً أن آليات هذا الطوفان وإمكاناته محمولة على أذرع ومنابر ومؤسسات تقنية عالية، ما يسهّل عملية الإغراق الأمريكي لتلك الشعوب، بمعنى أن ثمة تهديداً واقعاً يُحدّق في عالمنا العربي والإسلامي، ويستهدف طمر ثقافتنا واستبدالها بثقافة أمريكية جديدة، وهذا هو الخطر الأول. هذا الخطر يستهدف فيما يستهدف الشعب الفلسطيني، أيضاً، هذا الشعب الذي يتعرّض أكثر من غيره إلى سياسات استراتيجية حاسمة أخرى للقضاء عليه، وخلق حالة من العدمية فيه بعد استلابه وتغريبه وتجهيله وقمعه، أي أن الشعب الفلسطيني يتعرّض إلى حملتين، فيما يتعرّض عمقه العربي والإسلامي إلى حملة واحدة، وهذا يعني أن على الشعب الفلسطيني مهمّتين، أو لنقل إن عليه أن يحارب على جبهتين، على الأقل، فيما يتعلّق بتحصين ذاته ثقافياً على وجه الخصوص. الإلغاء والإلهاء ثمّة فعل احتلالي ممنهج يتكئ على آخر نظريات ثورة الاتصالات يهدف إلى تفريغ الإنسان الفلسطيني من محتواه الثقافي والوطني والحضاري، ويشترك مع هذا الفعل ما تصبّه الولايات المتحدة وأذرعها الإعلامية في المنطقة، لتعميق حالة الضياع والوهن في المجتمع الفلسطيني، ويبدأ هذا الفعل من رصد كلّ المؤسسات الأهلية والرسمية التي تنتج الفرد، بحيث يقوم هذا الفعل بتغذية تلك المصادر بمضامينه بعد أن يحطّم أو يشوّه أو يلغي المضامين التي تسعى المؤسسات المنتجة للثقافة إلى إيصالها للأفراد. وعلى سبيل المثال، ثمّة ثقافة ومعطيات جاهزة ومحدّدة تصبّها آليات الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي عبر وسائل الإعلام والمدارس والجامعات وبيوت العبادة والمؤسسات غير الحكومية وحتى المؤسسات الرسمية، تبدأ من مرحلة الطفولة الأولى، مروراً بمراحل الطفولة والمراهقة والنضج وانتهاء بمرحلة الإنتاج، بشكل مباشر وغير مباشر، يساعدها في ذلك حالة التحوّل السياسي والاجتماعي وظروف الشعب الفلسطيني الاستثنائية، وضعف السلطة الوطنية الفلسطينية وحاجتها إلى الدعم المالي والسياسي، وحالة التعويم التي يشهدها المجتمع الفلسطيني، والتي حالت دون بلوغه مرحلة الاستقرار أو التكريس السياسي، ما يفتح ثغرات كبيرة تنفذ منها سموم الاحتلال بشيء من اليسر والسهولة. ولعلّ عملية حقن الفلسطيني والعربي بصورة عامة، بثقافة جديدة، قد سبقتها عمليات تحطيم للمبادئ الكبرى وتشويه الأرضية العقدية، وصاحبتها عمليات التدمير العنيف والقتل، والتشظية وإيقاظ الإثنيات، وخلق الأمم المتغايرة داخل الأمة الواحدة، وتمتين الفواصل وتعميق حالات الجهل والأمراض والانشغال بصغائر الأمور، ثم تمّت عملية نقل الوعي العام والذائقة الجمعية والموقف المشترك من حالة الانسجام والصحّة والثبات إلى وضع يمكن معه قبول ما ستصبّه آليات الاحتلال في الأفراد الذين سبق أن تمّ العمل على إضعاف مناعتهم وهتك حصانتهم، الأمر الذي أنتج واقعاً يضجّ بالنتوءات والإحباط واليأس. وربّما لم ينتبه الكثيرون إلى أن الاحتلال منشغل بأدقّ تفاصيل حالتنا الثقافية، ووعينا بشكل عام. لهذا نرى الحالة التي وصل إليها خطابنا الإعلامي والتعليمي والمؤسسي والإقتصادي والإجتماعي والسياسي إلى ما وصل إليه من حالةٍ تستدعي إعلان ناقوس الخطر، وإطلاق صرخة مدويّة لننتبه إلى ما يراد لنا من هشاشة وضعف وإلغاء. باختصار إن وصف المشكلة بموضوعية ودقّة جزء مهم من حلّها، وإن المشكلة التي نواجهها، نحن العرب والمسلمين على اختلاف مواقعنا ومهامّنا وأدوارنا والتحديات التي تواجهنا، يمكن تلخيصها بالآتي: أولاً: الاحتلال، ففي الوقت الذي يتّجه فيه العالم إلى خلق واحترام قيم كونية تقوم على احترام الكرامة الإنسانية وصونها، فإن أمتنا العربية والإسلامية تتعرّض هي بالذات إلى الاحتلال بشكله الاستعماري القديم والبغيض. إن الاستعداء على أمتنا بالاحتلال العسكري المباشر يعني أن منطقتنا وشعوبنا تملك ما لا يملكه الآخرون، وتستطيع ما لا يستطيعه الآخرون، وأن الاحتلال المباشر هو الطريق الأسرع والأنجع لتعطيل قدرات هذه الأمّة. ثانياً: تذرير المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وإثنية وجهوية ودينية، ذلك أن القانون الاستعماري القديم “فرّق تسد” ما زال فاعلاً، وما زال المستعمر القديم يستغلّه في منطقتنا من الرباط حتى كوالالمبور. إن فكرة تفتيت العالم العربي والإسلامي فكرة استعمارية قديمة، لا تزال برّاقة في ذهن المستعمر الذي لم يتخل عن عقليته الاستعلائية، يقوم بإسقاط كلّ الأقنعة بشرعنته للإحتلال المباشر. ثالثاً: خدمة إسرائيل وجعلها الدولة الأقوى والأكثر أمناً، وذلك من خلال إنهاك كل شعوب المنطقة، وإفقارهم وتجريدهم من مفاعيل قوتهم. إن استثناء إسرائيل من المعاهدات الدولية، وجعلها فوق القانون الدولي والإنساني، جزء من عملية أكبر وهدف أعرض. إن تقوية إسرائيل وتغذيتها وتصليبها من معظم دول الغرب يقابله إضعاف أمة العرب والإسلام وسلبها مصادر قوتها. رابعاً: المحاولات المتكررة والدؤوبة لزعزعة المرجعية العليا والمقدّسة لهذه الأمة، والجهد الحثيث لطمس الهوية وقطع العلائق مع كلّ ما أنتجته الثقافة العربية الإسلامية من مُثل ونماذج وسياقات فائقة الكمال، وقد اتخذ هذا المنحى هجوماً مركّزاً على منابع الثقافة العريضة والعريقة، من خلال الإعلام والأدب والسينما ومراكز البحث والجامعات والمعاهد والاستشراق ومجالات العلوم الإنسانية المختلفة التي لا ضابطَ قيمياً لها أو محدداً فكرياً يحكمها. خامساً: عولمة اقتصادية فكرية سياسية ظالمة تسعى إلى هدم الكيانات المجتمعية، وتبهيت الفوارق بينها، وتحويلها إلى قطعان من المستهلكين بلا خصوصيات، وبلا كيانات سياسية صلبة ولا أنساق مجتمعية منيعة، إذ تستبدل بالحكومة الشركة، ويستبدل بالاقتصاد الوطني حسابٌ في البنك الدولي، وبالخبير الماهر يدٌ عاملة رخيصة، ولا يعود للإبداع الحقيقي دورٌ ما دام هناك من يصدر النماذج والرموز للعالم كلّه. العولمة بمفهومها الذي نفهمه نحن هنا في هذه المنطقة، والذي نلمسه، أيضاً، هو تحويل العالم إلى عبيدٍ وأسيادٍ، شركاتٍ عملاقةٍ وجماهيرَ فقيرة، استعمارٍ جديدٍ مرعب، لأنه لا يستعمل القوة العسكرية فقط، وإنما يحاول أن يعيد وعي الجمهور ذاته ليقبل الاحتلال باعتباره المنقذ. سادساً: نظام عربي أعلن إفلاسه تماماً، أخفق في الحرب وأخفق في السلم، وأخفق في التنمية، وفشل في تعبئة الجماهير، ذلك أن هذا النظام الفسيفسائي اعتمد مصالح متضاربة وأهواء مختلفة، أخفق وحدوياً وأخفق قطرياً، فعاد ذلك كلّه على شكل جماهيرَ معطلةٍ مقموعةٍ رأت في الغياب أو “الإرهاب” حلاّ لها. سابعاً: نخبة ثقافية تغريبية استوردت الرؤية والنظرية إلى واقع لا يشبهها ولا يطيقها، فعدلوا الواقع وغيّروا البيئةَ ليلائمَ المستورد، فكان أن صارت غربةٌ حقيقيةٌ للواقع من جهة، وللرؤيةِ المستوردةِ من جهة أخرى. ويبدو أن ذلك أساسُ مشكلةِ ما يسمّى “العالم الثالث”، إنها عجزت عن خلق تجربتها الذاتية، إما لغياب الإرادة أو لارتهانها. هذا الوصف لا يتم إلا بالإشارة إلى استراتيجية الإدارة الأمريكية التي وضعت أولوياتها للسنوات القادمة. إن الرؤية الأمريكية التي هي ثمرةُ اليمينيةِ وتياراتِ (اليهوسيحية) تجدُ مجالَها الأرحبَ وتجد تبريراً لها في منطقتنا بالذات، ذلك أن إسرائيل وما يسمى “الإرهاب” وبؤرة الاشتباك الدائم كلّها في منطقتنا، وبالتالي فإنّها الهدفُ والملعبُ، أيضاً. الولايات المتحدة، وحتى تمررَ أهدافَها، تعملُ على إبقاءِ وضعِ التشظيةِ والتشرذمِ والفقرِ والفرقةِ من خلال: أ. تفريغُ الأجيالِ العربية الإسلامية، وجعلُها سهلةَ الانقيادِ، أشبهَ بالقطعان، وذلك بتوظيف الأذرعِ التقنيةِ وثورةِ الاتصالاتِ وغسلِ الأدمغة، بتحويل نظرياتِ علمِ الاجتماعِ والسياسةِ إلى ما يشبهُ التبريرَ الاستعماريَّ والتفوّقَ العنصريّ، وكذلك بعمليات الانتقاءِ والنفيِ لسردِ التاريخِ وروايةِ الحضارة. ب. تحويلُ الولاءاتِ، وتغييرُ الأولوياتِ من خلال شراء العقول والمنظمات غير الحكومية الممولة جيّداً، وكذلك عملياتُ التبادلِ الثقافيِّ والعلاقاتُ والاتفاقاتُ السياسيةُ والاقتصاديةُ. ج. المطالبةُ بتغيير برامج التعليم المدرسيِّ والجامعيِّ، وعملياتُ التشويه في ماهية التعليم وكيفيةِ نتائجة، بحيث تنعدم إمكانات الإبداع في الوطن. هذه الهجمةُ يتعرض لها العالم العربي والإسلامي بأكمله. أما في فلسطين، فإن الهجمة أشرس وأكبرُ، وعملياتُ التفريغ والعدميةُ ذاتُ أشكالٍ عدّة ومختلفة، ظاهرةٍ وخفيّةٍ، وتدخل علينا بألف لبوسٍ ولبوس؛ ذلك أن فلسطين تُعدُّ “منجم الإشكال وأسَّ العنف”، كما أنها الأنموذجُ العالي الذي يجبُ كسرهُ، باعتبارها الأنموذجَ الذي قدّم للعالم شكل الانتفاضةِ ونوعيةَ المقاومة، والأهم من ذلك كلّه، إن فلسطين تشكّل نقطةَ الخلافِ العميقِ بين عالمين وبين رؤيتين، ولهذه الأسباب كانت الهجمةُ على فلسطينَ وشعبِها أكبرَ وأعرضَ وأعمق.
مشاركة :