المتوكل طه يكتب: الصحفي في مواجهة العولمة

  • 10/27/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كانت وسائل الإعلام الحديثة تهدم المكان وتعيد تشكيل الزمان، فإنها بالتأكيد قادرة على إعادة قوانين السوسيولوجيا أيضا. إن سوسيولوجيا العالم مختلفة بعد الانترنت والتلفزيون الرقمي. وفيما تتسابق وسائل الإعلام على إضاءة العالم واكتشاف عيوبه ونقائصه ونقائضه، فإن لذلك أثماناً باهظة أيضاً. وإذا كانت العولمة تُبشر بعالم صغير ونظيف وبلا حدود وبحريات لا حدود لها أيضاً، فإن ذلك قمين بفتح ملفات الهوية وتعريف الذات. عصر العولمة هو عصر الانكشاف والإضاءة والكاميرا، هو عصر الجماعات الصغيرة أيضا، عصر الحقوق، وعصر الفرد الذي يختزل جماعته كذلك. عصر العولمة عصر معقّد بما يكفي. الكاميرا لا تحل المشكلة، وحرية الصحافة لا تضع الحلول، وربما كان ذلك يعمل على تركيب المشهد وتعقيده، لأن حقوق الفرد تكبر، فيما تصغر الجماعات أكثر فأكثر. إن إنهدام الدولة في عصر العولمة جديرٌ بنهوض الجماعة ونهوض الفرد أيضاً . ومن هنا،أو، ولهذا كانت حقوق الإنسان الفردية والجماعية مسألة مطروحة بقوة في هذا العصر بالذات، ليس فقط بفضل القوانين الدولية والمحلية، وإنما بسبب هذا الانفجار المعرفي والثورة الاتصالية. والإعلام سلاحٌ أعمى بدون أيديولوجيا، والإعلام قوة ضالة مضلة بدون وعي يحكم وينظم ويعرف أهدافه، ولأن الأمر كذلك، فإن مسألة حقوق الإنسان عندما يتناولها الإعلام، تختلف باختلاف المواقع والمصلحة والمرجعيات. إننا ننتمي إلى شعب ضُيّعت حقوقه الفردية والجماعية منذ عقود طويلة، مثلُنا مثل شعوبٍ كثيرةٍ في هذا العالم، ولكن الإعلام الغربي بالذات، وهو الإعلام المسيطر والمصدّر للرواية الصحفية ، يتجاهلنا تماماً، بحجة الالتزام الأخلاقي لطرف آخر، وبحجة الحساسية الغربية المتعلقة بمن يحتلّنا. وإذا كانت حقوق الإنسان “موضة” عصر العولمة، فإن الإعلام الغربي، القوي والمسيطر والمصدّر للنموذج والبنى المقبولة دولياً ، يستطيع أن يجعل من قضيه انتحار حيتان على شاطئ مجهول ما، أكثر أهمية من قضية ذبح مليون شخص في بلد عربي أو في مجاهيل إفريقيا، أو تشريد شعب بأكمله في فلسطين. إذن، والحالة هذه، فإن القوي هو صاحب الرواية، وهو سيد السرد، وهو صانع الصورة، وهو بذلك يعيد صياغة العالم كما يريد، فهو يطلق الصفات، وهو من يسمّي الأشياء، وهو من يَحبِك العقدة، ولديه صناعة التصديق ونظريات التأثير وحاملات روايته، وهكذا فإن مسألة حقوق الإنسان الفردية والجماعية تبقى مسألة خاضعة للهوى والمزاج والمصلحة والرؤية الفكرية. فما هي مسؤولياتنا باعتبارنا إعلاميين فلسطينيين وعرباً ومسلمين ؟! أو باعتبارنا أصحاب قضايا كبرى مستباحة ومستلبة ومنهوبة ؟ وما هي قدراتنا الحقيقية أو على الأقل التي نسيطر عليها ؟ وما هي ثروتنا الإعلامية التي يمكن لها أن تقدم رواية أخرى وسرداً آخر وصورة أخرى غير تلك النمطية أو الإستشراقية أو تلك التي يؤصّلونها بعد الحادي عشر من سبتمبر؟. إن الإعلام هو ترجمة حقيقية لموازين القوة والضعف، وإن الصحفي، وبالتالي روايته الصحفية تنبع من موقفه في العالم أيضا ً. وإن لغة الصحفي هي جزء من طموحه الشخصي والجمعي، وهنا لا تكفي الحقيقة ولا الموضوعية، مهما كان ذلك صادما ً أو جارحا ً. ونحن هنا لا نرفض المهنية ولا الموضوعية، وإنما نرفض الحياد، فالصحافة في نهاية الأمر التزام وانتماء إلى الزمان والمكان والإنسان؛ انحياز للحق مهما كان ضعيفا ً، وانحياز الإنسان مهما كان مهمشا ًومهشّما ومغيباً. نحن، كإعلاميين على هذه الأرض، تقع علينا مسؤولية القول كما ينبغي، ويقع علينا واجب السرد؛ سردا ً فلسطينيا ًنهضويا ًينحاز للإنسان والخير والعدل، للتتمايز الرواية الفلسطينية – على ضعفها أو عدم وصولها – عن رواية المحتل والظالم والشرير. العالم مجرد حَبكة، والإعلام القوي المسيطر يستطيع أن يَحبِك روايته جيداً، ويجد لها ذرائعها الأخلاقية ومبرراتها الإنسانية، بل ويقوم بتأويل النصوص المقدسة لتكونَ ذريعةً أخرى بيده يستخدمها كمرافعةٍ وجيهة في وجه خصومه، ويستطيع أن يقدمها بطريقة باهرة ومثيرة ومغرية ومُغْوية، وهي بسبب انتشارها وقوة حضورها قادرة على التأثير والتغيير. ولا يمكن لخبرنا أو سردنا أو صورتنا أن تصل دون قوة الحضور والتأثير أيضاً . هل نقول إن إعلامنا عاجز لأنه جزء من جهد جماعي عاجز؟! وهل نقول إن رواية الضعيف عادة ما لا يصدّقها أحد ؟! وهل نقول إن حقوقنا ضائعة بسبب أن إعلامنا عاجز، أم أن اللحظة التاريخية العربية كلها عاجزة؟! أسئلة يطرحها الوقت الحالي أكثر مما أطرحها شخصياً . فنحن في عصر تتسيّد فيه الكارتلات الصناعية الكبرى التي تُعلي الربح على القيمة، والمنفعة على أي شيء إنساني آخر. وعصرنا ، صراع أيديولوجيات وحَبكات، وتلعب فيه الكاميرا دوراً هاما وثورياً، خاصة بعد أن تم انتقال الثقافة من المكتوب إلى المرئي. وعليه فإن حق الإنسان في العيش والتعبير وحرية التنقل والعبادة، وقبل ذلك حقه في تقرير مصيره، كلها مسائل تتحول إلى أسئلة من نوع آخر أو هامشية أو تتعرض لتحوير مؤذٍ في عصر ٍزادت فيه الأضواء والأهواء وتحوّل العالم إلى عالم افتراضي. وفي مثل هذا العالم، فإن الصحفي الفلسطيني يواجه ليس فقط عوائق الاحتلال، وإنما عوائق تَغيّر التاريخ أيضا ً.

مشاركة :