في بداية الأمر ونهايته، فإن المصطلح الإعلامي هو تعبير وترجمة وتنفيذ للرؤية السياسية العامة. وفي بداية الأمر ونهايته، فإن الإعلام “له صاحب” كما يقولون. ليس هناك إعلام ينطلق في الهواء أو الفراغ، أو يأتي من العدم ويذهب إليه. الإعلام بكل مكوناته وحمولاته ودلالاته هو مصلحة أو غرض أو هوى أو أيدلوجية بمعنى الرؤية. يجب أن ندرك ذلك تماماً عند الحديث عن الإعلام، فالإعلام وإنْ كان رافعةً فهو مرفوعٌ ايضاً ومحمول، وإنْ كان له وظائف مختلفة فإن إحدى أهم وظائفه هو التعبير والترجمة والتنفيذ للرؤية السياسية، وهذا أمرٌ ينطبق تماماً على الإعلام الغربي الذي يُسمّى حراً وديموقراطياً، فقد رأينا كيف يتصرّف هذا الإعلام عندما يتعلّق الأمر بالاستراتيجيات الكبرى والقضايا المهمة، التي تهمّ الغرب وسياسة الغرب. “والإعلام له صاحب”، هذا أحد القوانين الكبرى التي تحكم آلة انتاج المصطلح الإعلامي . صاحب الإعلام هو صاحب الرأي أو صاحب رأس المال، ولا ثالث للإعلام بعد ذلك . إذن، دعوني هنا، أتوسّع في الرؤية السياسية الناظمة للحياة بكل مستوياتها في المجتمع المحلي أو حتى الدولي. فكل رؤية سياسية قوية ومسيطرة كانت أو ضعيفة مستضعفة، فإنها تخلق فضاءً إعلامياً لا ينطبق جغرافياً على السلطة السياسية، فقد يكون الفضاء الإعلامي أوسع وأكبر من البقعة الجغرافيا التي تسيطر عليها السلطة السياسية، وخاصة إذا كانت مسيطرة وقوية، كما هي الحال في الولايات المتحدة. الفضاء الإعلامي الذي يتخلّق هنا بفعل الرؤية السياسية تنفّذه نخبٌ مستفيدة أو راضية أو مسترضية، ويتحوّل الخطاب الإعلامي والفكري لهذه النخب إلى خطاب يُرضي الخطاب السياسي، ليس بطريق القوة فحسب، وإنما بطريقة الإقناع متعدد الأوجه والأساليب. هذه بالضبط هي إحدى نظريات الإعلام الرأسمالي الذي يقوم على الإقناع والرضا. ما نحاول قوله هنا: إنّ السلطة السياسية تصنع مجالها الإعلامي والفكري، عن طريق إشعاع المقولة الإعلامية أو الفكرية، بطريقة متسلسلة ومتراتبة تقوم على رغبة معظم الجمهور بالإندماج في هذه المقولة والدفاع عنها وتبنيها وعدم مساءلتها أو نقاشها. السلطة السياسية بفعل القوة أو الإقناع، تتحوّل إلى العنوان والشرعية والممثل الوحيد للجماعة، وبالتالي، فإن هذه السيطرة وهذا الحضور كفيلان بتحوّل الخطاب السياسي إلى مفردات ومفاهيم ومصطلحات تعبّر عن تلك السلطة . السلطات السياسية الذكية والواعية تسمح بهوامش عديدة، ضيقة ومتسعة حسب مفاهيمها، ليتمّ نقدها من داخلها، وأن يتم الاعتراض عليها، لأن ذلك يحقق أمرين؛ الأول: إقتناع حقيقي بأن النظام السياسي والإجتماعي لا يُصحَّح ولا يُقَوَّم إلا بمثل هذه الإعتراضات والإنتقادات، الأمر الذي يجعل من هذا النظام قوياً ومتجدداً دائماً، والأمر الثاني: أن الاعتراضات والإنتقادات كفيلة بإزالة التوترات وبؤر الإنفجار وإلزام الجميع بقواعد اللعبة السياسية الاجتماعية . ومرة أُخرى، نحن نتحدث عن النظام الرأسمالي الذي يجدد نفسه دائماً باعتباره مرجعية ذاته، وهو أمر نفتقده في الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تدّعي إمتلاك الحقيقة، بحيث لا يمكن نقاشها أو مناقشتها أو حتى ترف الإعتراض عليها. نخلص من هذا للقول إن اللغة الإعلامية بكافة تفاصيلها ومقولاتها المكتوبة والمحكية والمسموعة والمرئية ما هي إلا تجلّيات للخطاب السياسي الناظم للمجتمع، حتى وإن بدت هذه اللغة معارضة أو منتقدة أو غير مشاركة أو فاعلة. وأقول أكثر من ذلك: الإعلام في جميع الأنظمة السياسية الديكتاتورية منها والديموقراطية، ما هو إلا فهم المجتمع لنفسه، وتعريفه لذاته، ومقارباته المختلفة مع المجتمع ذاته ومع تحدياته المختلفة. لا يمكن فصل السينما الهوليوودية عن خطاب الإدارة الأمريكية، ولا يمكن فصل الخطاب الإعلامي الإيراني عن خامنئي. الإعلام ولغته هما الشكل الخارجي للنظام السياسي، هما زيّه، وأذرعه واستطالاته، وعقله الذي يردّ به، وآلته التي يقاتل بها، ولا يَغُرّنا في ذلك ديموقراطية أو ديكتاتورية. والديموقراطية هنا أذكى في التعبير عن نفسها، وفي حماية نفسها، وفي قدرتها على التكيف والاستمرار والإنتصار. الديموقراطية الليبرالية التي أعنيها هنا، هي أسلوب حياة سياسي واجتماعي، يعتقد أن المجتمع هو الوحيد القادر على تصحيح نفسه بنفسه، ولهذا، فإن الحرية المعطاة هنا هي جزء من القدرة على البقاء والإستمرار والنماء والعافية والصحة، ولا اعتراض لنا على ذلك سوى أن هذا لن يعمي عيوننا عن أن الديموقراطية الليبرالية هي لأصحابها أيضاً، وهي ذات أسنان وأظفار حين الحاجة وحين الظرف، والأهم من هذا ألاّ تُعمي الديموقراطية الليبرالية عيوننا عن أن ما يبدو فيها من خطابات متناقضة ما هي إلا تمظهر حقيقي للنظام الحاكم، الذي حدد قوانين اللعبة وحدودها وأسلوبها وطريقة إدارتها وحتى نتائجها، فليس من الصدفة مثلاً أن تكون بريطانيا وأمريكا اللتان تضمان أكثر من 400 مليون شخص ثم لا نجد فيهما غير حزبين كبيرين يتبادلان السلطة بين حين وآخر، إن ذلك يعني ببساطة أن النظام حدد كل شيء . وثمة مطابخ ومختّصون نفسيون واجتماعيون وسياسيون وإعلاميون، تقف وراء إنتاج مصطلحات جديدة أو بديلة، بهدف الهبوط بالوعي العام من التمسك بالثوابت إلى حُفرة التنازل والتخلّي عن الحقوق، ذلك أن المصطلح يعبّر عن وعي أو وجهة نظر أو موقف محدد، فمثلاً كان مصطلح “العمليات الاستشهادية” هو ما يُطلق على ما عرفناه في فلسطين، ليصبح المتداول فيما يعد، هو مصطلح “العمليات الفدائية” ثم صار “التفجيرية” ثم نزل إلى مصطلح “الانتحارية” ليصل إلى أدنى دلالة يحملها مصطلح “العمليات الإرهابية” . هذا ما تقوم به وسائل إعلام الجهة النقيضة لنا، بوساطة التكرار والإلحاح، وتعميمه في كل خطاب سياسي أو ثقافي أو إعلامي أو اجتماعي أو حتى اقتصادي، عدا عن أن الجهة المُنتجة للمصطلح الجديد أو المُتغيّر، تسعى إلى أن تجعله مصطلحاً تستخدمه وسائل إعلام أُخرى ومؤسسات أهلية وغير حكومية، عبر ترغيبها أو ترهيبها، أو كشروط واستحقاقات مقابل دعمها لها، بوساطة غير طريقة وأسلوب. ويتم ذلك بغياب جارح للمؤسسة الفلسطينية والعربية، وبعيداً عنها ! والإعلام لِطبيعة دوره يقوم إما بالتشكيك أو بالنفيّ أو بالتأكيد والترسيخ، ثم صار الإعلام الآن يخلق خطابا جديدا يؤسس لوعي ومعرفة غير مسبوقة هنا أو هناك. أين المصطلح الإعلامي في هذا كله؟! يقوم المصطلح الإعلامي هنا بتلخيص المواقف والرؤى والمفاهيم، حسب المقبول والمُضمر السياسي والاجتماعي، وأكثر من ذلك، يقوم المصطلح الإعلامي هنا بقولبة الجمهور وضبط العمليات الاجتماعية بكل مفاهيمها. وهنا أيضاً لا بد من التوسع قليلاً في ذلك، فقولبة الجمهور عملية إتصال جماهيرية يتم من خلالها وضع السقوف والنماذج والسلوكيات المطلوبة والمحبّذة، وتوجيه وإرشاد هذا الجمهور حيث تريد العقلية الحاكمة أو الناظمة. قولبة الجمهور أي جعله متشابهاً في أفعاله وردود أفعاله، وهذا لا يتم سوى بفرض المصطلح الإعلامي بالتكرار والقوة والإقناع. أما من حيث ضبط العمليات الإجتماعية فهذا خاضع أيضاً للرؤية الكلية التي يخضع المجتمع لها بالجبر أو الطاعة. لنقارن هنا بين عمليات الضبط الاجتماعي في الصين مثلاً، وبين ما تفعله أي دولة عربية لذات الأهداف، وسنرى الفرق الكبير بين العمليتين من خلال استخدام المصطلح الإعلامي، وكيف تم نشره وتعميمه وما هي نتائج كل عملية. وفي فلسطين نجد المصطلح المتناقض والمتنافر بعدد اختلاف الرؤى والمنطلقات، وإذا قورن ذلك بما نجده لدى الأنظمة العربية الأخرى، فإننا أمام فضيحة حقيقية على المستوى العقلي والسياسي والأمني والحضاري أيضاً. إذ أن المصطلح يختلف بآاتلاف النظام، ويختلف باختلاف التعريفات الأساسية للمجتمعات، ويختلف باختلاف الأهداف والاصطفافات والمحاور. وتناقض المصطلح الإعلامي يعني غيابها وعدم تأثيرها ومحدوديتها، وليس من الغريب هنا أن القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني هو الذي فرض مصطلحين عالميين هما: الانتفاضة والنكبة، لأنهما وُلدا من رحم الفعل المقاوم. ولكن، وعلى الجهة الأخرى، ليس من الغريب ألا تستطيع الدبلوماسية العربية أن تفرض مصطلحاً إعلامياً واحداً على السياسة العالمية كما فعلت إسرائيل، لسببين اثنين لا ثالث لهما: الأول أن المصطلح الإعلامي العربي متناقض تماماً، فالثائر لدى هذا هو إرهابي لدى ذاك، والإستقلال لدى هذا هو احتلال لدى ذاك، والسبب الثاني غياب القدرة على صنع الإصطلاح، فالإصطلاح الإعلامي نستورده عادة مثل استيرادنا باقي المصطلحات الفكرية والعلمية والحضارية. لنأخذ مثالاً بسيطاً من مصطلحاتنا الإعلامية العربية وحتى الفلسطينية، فالخط الأخضر والمطلوبين والضفة الغربية والجيش الاسرائيلي، كل ذلك هي مصطلحات تُفرض علينا ونبتلعها دون الانتباه الى مضامينها السياسية والأمنية، وقد وصل الأمر برئيس إحدى الدول العربية الى وصف الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بأنها يهودا والسامرة، ولا يغيب عن البال معنى هذا المصطلح ومن أية ثقافة تم إنتزاعه وكيف وُظّف وخدم مَنْ؟!. أكثر من ذلك، نحن نسمع صباح مساء أن “فلان” هو وزير الدفاع وأن قوات الأمن الاسرائيلية قتلت فلسطينياً دون أن تعرف أين ومتى وكيف ولماذا، حتى تحسب أن هذا الفلسطيني هو سارق أو خاطف حقائب السيدات الاسرائيليات في إحدى المستوطنات مثلاً. الحقيقة أن هذا يثير الفزع، لأنه ليس ساذجاً ولا عفو الخاطر، ليس في الإعلام براءة أو حسن نية، كل ما يظهر على الشاشة أو يكتب أو يقال فله هدف!.ز ألم نقل إن الإعلام له صاحب!. ضعف النظام السياسي أدى إلى ضعف المصطلح وارتباكه وتناقضه، واختلاف النظام السياسي العربي في توجهاته أدى إلى أن تكون هناك فوضى إعلامية على مستوى المصطلح وعلى مستوى اللغة، وفي حالة رصدنا لثلاث أو أربع فضائيات عربية سنجد أخطاء وخطايا لا تتعلق بقضية الشعب الفلسطيني فقط وإنما بمجمل أهداف الشعب العربي نفسه. وهذا يدعونا، مسئولين ومثقفين وإعلاميين، إلى البحث عن صيغة مشتركة مقبولة في حدّها الأدنى، من أجل تقريب المصطلحات بما يحقق المصلحة العليا للشعوب العربية، أو على الأقل أن لا تسيء لأحلامها أو آمالها أو أهدافها أو نضالاتها. فالمصطلح الإعلامي ليس كلمة تلقى في الهواء، فخلفه مضمون، ويُخفي أهدافاً، ويسعى لخلق فضاءات في الوعي، من أجل تغيير السلوك. وكنا قد دعونا غير مرّة إلى ندوة لتوحيد المصطلح، وفوجئنا أن لا أحد يجيب أو يستجيب، واليوم نُصرّ على عقد مثل هذا المؤتمر، أيماناً منا بأن اللغة الإعلامية هي المرجعية وآلة العمل وواجهة الأهداف، لعل وعسى يكون في عملنا هذا ما فيه الخير، لنا ولشعوبنا ولأهدافنا الكبرى .
مشاركة :