هناك خلاصة يمكن الخروج بها من اجتماعات «المنتدى الاقتصادي العالمي» (دافوس) التي انعقدت هذه السنة على الضفة الأردنية من البحر الميت. الخلاصة أن الأردن استطاع تحصين نفسه في ظل العواصف التي تمرّ بها المنطقة. كان النجاح نجاحاً أردنياً. بل كان نجاحاً شخصياً للملك عبدالله الثاني الذي استطاع الفوز في الرهان الصعب المتمثل في تحقيق نموّ اقتصادي ومتابعة الإصلاحات في ظلّ معادلة إقليمية في غاية التعقيد. هناك العراق من جهة. وهناك سورية من جهة أخرى. وهناك الوضع الفلسطيني وانعدام أي أمل في السلام من جهة ثالثة. على الرغم من ذلك كلّه، وعلى الرغم من الخطر الذي يمثله «داعش» وما شابه «داعش»، وعلى الرغم من استقبال الأردن ما يزيد على مليون ونصف المليون لاجئ سوري، استطاعت المملكة، التي لا تمتلك ثروات طبيعية تحقيق نسبة نمو تجاوزت الثلاثة بالمئة في العامين الماضيين، وهي تتجه إلى تحقيق نسبة أربعة بالمئة هذه السنة وفي السنة المقبلة. تكمن أهمية «المنتدى الاقتصادي العالمي» في أنّه يتحدث بلغة الأرقام وليس بلغة التمنيات. بلغة الأرقام تحدّث أيضا العاهل الأردني الذي ركّز على ثروة اسمها ثروة الإنسان وعن الأردن الذي تحوّل «ممرّا للابتكار»، مشيرا إلى أنّ «قطاع التكنولوجيا في المملكة يولد خمسة وسبعين بالمئة من المحتوى العربي على شبكة الإنترنت». أثبت الأردن مرّة أخرى أن هناك حياة على الضفة التابعة له من البحر الميت. الدليل على ذلك، توقيع العديد من الاتفاقات وإطلاق مجموعة من المشاريع تبلغ قيمتها ستة مليارات وتسعمئة مليون دولار. كذلك، أعلن عن «إشهار فرص استثمارية جديدة بقيمة عشرين مليار دولار في قطاعات الطاقة والطاقة المتجددة والنقل والمياه والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية والتطوير الحضري والسياحة». لا شيء يمكن أن يقوم على فراغ، أو أن ينطلق من فراغ. ما نجح فيه الأردن هو ضمان الاستقرار الداخلي و«قلب التحديات إلى فرص» على حد تعبير عبدالله الثاني نفسه. أطلق الأردن بالتزامن مع استضافته أعمال «المنتدى الاقتصادي العالمي» حملة لتنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمار تحت شعار «الأردن، انطلاقة متجدّدة». تقوم هذه الانطلاقة على وثيقة الأردن 2025«التي تحدّد إطاراً عاما للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي أُعلن عنها في الحادي عشر من مايو الجاري». حملت إحدى الجلسات الرئيسية في أعمال المنتدى عنوان«الأردن، انطلاقة متجددة». كان مهمّا سماع شخصيات مهمّة تتحدث عن الأسباب التي تدعو إلى الاستثمار في الأردن. تحدّث عن أهمية الأردن في مجال الاستثمار كل من السيد بهاء رفيق الحريري مالك شركة«الأفق»للتنمية والتطوير، التي تقف وراء مشروع العبدلي، وسوما شاكربارتي رئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية والسيّد محمّد العبّار رئيس مجلس إدارة شركة«إعمار»الإماراتية وستيفن بوتيل نائب رئيس شركة«سيسكو»ولي مينغ رئيس شركة«هاميرجي هولدينغز»الصينية والدكتور باسم عوض الله الرئيس التنفيذي لشركة«طموح»للاستثمارات. كان لكلّ من المتحدثين في الجلسة أسبابه الخاصة التي تدعو إلى الاستثمار في الأردن. لكنّ كلام بهاء الحريري كان ملفتا عندما أشار إلى تمكن الأردن من وضع نفسه في موقع يتجاوز ما يجري وسيجري في سورية والعراق، بمعنى أن الاستقرار فيه لا يتأثّر بما يشهده هذان البلدان، بل إن الاستقرار صار ملازما لطبيعة الأردن. كيف استطاع الأردن خلق وضع خاص به في هذه الظروف الإقليمية التي لا سابق لها؟ كيف استطاع ذلك فيما سورية تتفتت... وهناك حرب ذات طابع طائفي ومذهبي في العراق الذي طالما لعب دورا مهمّا على صعيد تشكيل عمق اقتصادي للمملكة؟ الجواب بكلّ بساطة أنّ هناك ملكاً استطاع استشفاف المستقبل والرهان على الأردنيين والعمل على بناء مؤسسات لدولة حديثة قادرة على استضافة اجتماعات«المنتدى الاقتصادي العالمي»للمرة الثانية عشرة وطرح مواضيع في غاية الأهمّية من نوع مستوى التعليم ودرجة تطوّره. صار هناك تلازم بين دافوس والبحر الميّت من دون أن يعني ذلك أن الاجتماع سينعقد السنة المقبلة في الأردن. فقد أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن مصر ستستضيف اجتماع السنة المقبلة. حضر السيسي إلى البحر الميّت وألقى خطاباً في غاية الأهمّية شدّد فيه على طموحات بلده، مؤكداً أن لا مكان في مصر بعد الآن للتطرّف والإرهاب. شدّد السيسي في الوقت ذاته على التزام حقوق الإنسان والحريات. أن ينعقد«المنتدى الاقتصادي العالمي»في شرم الشيخ مجدداً، دليل على أن مصر استعادت عافيتها إلى حدّ كبير. كذلك كان حاضراً رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عبّاس الذي حذّر من مناورة إسرائيلية اسمها الدولة الفلسطينية»ذات الحدود الموقتة«. وأكّد الرفض التام لمثل هذا الطرح. العراق كان حاضراً أيضاً. كان هناك الدكتور أياد علّاوي نائب رئيس الجمهورية والسيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان. لكنّ الجلسة المخصصة للعراق أظهرت كم أن الحلول لمشاكل البلد بعيدة المنال، أقلّه في المدى المنظور. وقد بدا أياد علاوي في غاية التشاؤم بسبب الوضع السائد في البلد ولم يخف تخوّفه من تدهور سريع هناك. هناك في الواقع استثناء اردني. هناك بلد يتقدّم وينمو ويبحث عن تطوير تجربته ومتابعة مسيرة الإصلاح، على الرغم من أنّه على تماس مع حربين في العراق وسورية فضلا عن أنّه شريك فعّال في الحرب على الإرهاب بكلّ أشكاله. لا مبالغة في القول إن ما تشهده المملكة أقرب إلى معجزة من أيّ شيء آخر، وذلك في عالم لم يعد فيه مكان للمعجزات. إلى ماذا يعود ذلك؟ الجواب بكلّ بساطة أن عبدالله الثاني يثبت يوماً بعد آخر أنّه رجل استثنائي بكلّ معنى الكلمة. من كان يتصوّر على سبيل المثال وليس الحصر أن يتمكن الأردن من تجاوز«الربيع العربي»بسهولة وأن يستوعب كلّ تحرّك في الشارع بطريقة حضارية بعيداً عن أي نوع من العنف؟ ما كشفته اجتماعات«المنتدى الاقتصادي العالمي» في الأردن أن المملكة ركن اساسي في المنطقة. تبيّن أن من كان يظنّ أن الأردن دولة عابرة لا يعرف شيئا، لا عن الشرق الأوسط، ولا عن الأسس التي تقوم عليها المعادلات الإقليمية. تبيّن مرّة أخرى أن المملكة الأردنية الهاشمية دولة أساسية في الإقليم وأنّ على الذين استخفوا بها وبدورها البحث عن مهنة أخرى لا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد...
مشاركة :