يشهد العالم في الوقت الراهن تحولا ديموغرافيا غير مسبوق فالسكان آخذون في الشيخوخة ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة. وهناك بحوث تقصت على نطاق واسع انعكاسات شيخوخة السكان على سياسة الإنفاق الحكومي والضرائب "أي سياسة المالية العامة"، وثمة اتفاق عام على أن زيادة الضرائب مع خفض استحقاقات المعاشات التقاعدية وإطالة أعمار العمل ضرورية للتعامل مع عبء المالية العامة الذي تفرضه شيخوخة السكان، على الرغم من أن التحديات السياسية التي ينطوي عليها تنفيذ هذه الإجراءات هائلة. لكن لا تكاد توجد بحوث تتقصى تأثير شيخوخة السكان في السياسة النقدية، أي العملية التي تقوم من خلالها البنوك المركزية بالتأثير في أسعار الفائدة والمعروض النقدي لتعزيز استقرار معدلات التضخم وتوظيف العمالة والنمو. وحسب افتراض دورة الحياة الذي يقول إن الأسر المعيشية تقترض بالدرجة الأولى عندما تكون في عمر الشباب، وتراكم الأصول، وتسدد قروضها إلى أن تتقاعد، ثم تعيش على عائد أصولها في التقاعد توجد صلة واضحة بين فعالية السياسة النقدية والعوامل الديموغرافية. وتكمن بعض أسباب عدم تقصي الاقتصاديين لهذه الصلة إلا بشكل محدود في أن السياسة النقدية غالبا ما تكون مصممة لتتفاعل مع الصدمات قصيرة الأجل على أفق قصير يراوح مداه بين عام وعامين، وليس مع العوامل بطيئة التحرك التي تتبلور على مدار عقود، مثل التغير الديموغرافي. ومهما يكن التغير الديموغرافي صامتا وضعيفا فإنه ينطوي، على انعكاسات مهمة على السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة بما في ذلك بالنسبة للمناهج غير التقليدية الجارية مثل التيسير الكمي. ومن الناحية النظرية، تحمل عبارة تأثير شيخوخة السكان أكثر من معنی؛ ذلك أن الطرق التي يتأثر بها السكان الأكبر سنا بالقنوات المختلفة التي تتحرك السياسة النقدية من خلالها تختلف عن طرق تأثر الشباب بها. لكن على وجه الإجمال خلصت إلى أن شيخوخة السكان تحد فاعلية السياسة النقدية. يعزى كثير من الفضل للسياسة النقدية في احتواء التضخم وتثبيته، وبالتالي تعزيز النمو المطرد وإحداث خفض كبير في تقلب الدورة الاقتصادية حيث استمر في الاقتصادات المتقدمة منذ منتصف الثمانينيات إلى حين وقوع الأزمة المالية التي بدأت عام 2008. فبإبقاء توقعات التضخم تحت السيطرة، قامت البنوك المركزية بخفض حالة عدم اليقين التي يمكن أن تشوش على القرارات الاستثمارية وتكبح الاستهلاك، وتمكنت من الاستجابة بمرونة للصدمات. وفي أعقاب كل من حرب الخليج عام 1991 وانهيار فقاعة الإنترنت عام 2000، تم على وجه السرعة إرخاء السياسة النقدية لإعادة بدء النشاط الاقتصادي. وكانت تلك الاستجابة السريعة ممكنة حيث كانت توقعات التضخم منخفضة. لكن الاعتقاد في فعالية السياسة النقدية انتهى بسبب الأزمة المالية العالمية عام 2008. فمنذ بداية الأزمة وجدت البنوك المركزية صعوبة في إعطاء دفعة للنمو والأسعار، سواء في اليابان أو الولايات المتحدة أو أوروبا. وتوجد الآن أدلة متزايدة على أنه حتى خلال الأعوام الـ25 تقريبا لما يسمى الاعتدال الكبير التي سبقت الأزمة، كانت السياسة النقدية أقل قوة مما بدت. وتبين تلك الأدلة الجديدة أن السياسة النقدية كان لها تأثير أقل ومتناقص في متغيرات مثل البطالة والتضخم منذ منتصف الثمانينيات. وعادة ما يعزى تراجع الفاعلية المقيس بتأثير تغيرات أسعار الفائدة على البطالة والتضخم إلى توقعات للتضخم والناتج تقوم على ركيزة أكثر ثباتا، تتأثر بدرجة أقل بعد ذلك بتغيرات أسعار الفائدة. وعموما، يكون التضخم أقل استجابة للتغيرات في الفجوة الدورية بين البطالة والناتج "الفرق بين ما يمكن أن ينتجه اقتصاد ما بكامل طاقته من العمالة وما ينتجه فعليا" عندما تظل التوقعات التضخمية تقوم على ركيزة قوية تتمثل في المعدل الذي يستهدفه البنك المركزي، بما في ذلك خلال فترات الركود العميق، مثل الأزمة المالية العالمية الأخيرة. ويقول عدد كبير من الاقتصاديين إن هذه العوامل تفسر لماذا لم يحدث التوسع غير المسبوق للسياسة النقدية منذ عام 2000 تأثيرا أكبر في التضخم أو الناتج. ويذكر الباحثون تفسيرين رئيسين لانخفاض آثار السياسة النقدية. التحول الهيكلي للاقتصاد، ولا سيما في سوق الائتمان: يرى بعض المحللين أن التغيرات المؤسسية في سوق الائتمان تفسر ضعف فعالية السياسة النقدية. ويقولون: على مدى العقود القليلة الماضية، تم إرخاء القيود التنظيمية وتحرير أسواق الائتمان... يتبع.
مشاركة :