أكدت الكاتبة والروائية السعودية رحاب أبو زيد، دور الأسرة في خلق مجتمع محب وبناء في روايتها «الرقص على أسنة الرماح»، الرواية التي تعيد تفكيك فكرة المجتمع الذكوري وسطوته. وهي تعود في كتابها الثاني «بجناح واحد» لتدعم دور الحب وشفافيته في خلق مساحة كبيرة من الضوء والخضرة، في أدب رسائل كتبتها في الكتاب لشخوص لم ترها أو تلتقيها، وقد تكون لم تخلق، في إعادة لبعث أدب رسائل في زمن بات كل شيء يميل إلى المادة والخراب. رحاب أبو زيد، التي انضمت حديثاً إلى «بيت السرد» في جمعية الثقافة والفنون بالدمام، تواصل تأملها في الأشياء وتميل للطبيعة والأرواح. «الحياة» التقتها وحاورتها حول مواضيع مختلفة. > «بجناح واحد» هي بوح مفرط الحنين على شكل رسائل باذخة الكرم، للحياة والحب وتهب قارئها الأمل.. ما الذي تودين قوله من خلالها؟ - المتلقي النوعي في هذه المرحلة مشتت بين الروايات واليوميات وأعمال أخرى خفيفة، في «بجناح واحد» عودة إلى أدب الرسائل وإحياء لطريقة تواصل صامتة، حين يتحدث الإنسان مع ذاته، إذا بقي في جدول يومه وقتاً لذلك، يستحضر كل من يود التواصل معهم روحياً، ولا يهمه حينذاك إن وصلت الرسالة أم لم تصل، «بجناح واحد» يلقي الضوء على الحياة الوجدانية بين المرأة وذاتها وبين المرأة والرجل، وبين المرأة وطفلها، والمرأة والأغاني والجمال والشِعر والإنسان، من بين رسائل الكتاب رسالة إلى بدر بن عبدالمحسن ربما لم ولن يطلّع عليها مطلقاً، ورسالة أخرى إلى أريكة قرمزية، وهنا معنى آخر للتشيؤ بعيداً كل البعد عن المعنى الاستهلاكي للارتباط بالأشياء. > لم تصنفي كتاب «بجناح واحد» تحت أي صنف أدبي.. أهو الحيرة أم أن التصنيف لا يهمك وأن الأدب يأخذ دربه بأي شكل كان؟ - أحب من يمنحني مساحة للاختيار، ومن ثم أفرض على نفسي التعامل بالمنطق نفسه، قبل أن أفرضه على الآخرين، فالقارئ يشاركني اتخاذ القرار. هناك من ينشغل بالتصنيفات، وهناك من لا يهتم سوى بعبور بؤر على شفا الرهافة اصطادها أو اصطادته بين صفحات «بجناح واحد»، تستقطب حالته الشعورية وتقرع الجرس وتتحداه، أو ربما فعلت في لحظة متأرجحة كان يتهرب منها في الماضي السحيق. الكتاب سيسقطه في أي لحظة ثم ينقذه. > في روايتك «الرقص على أسنة الرماح» الصادرة عن دار بيسان 2011، وطبعة ثانية عن دار أثر 2013، تنتصرين للمرأة ووجعها والظلم الذي يطاولها في عالم ذكوري نرجسي بامتياز.. هل تغيرت الحال أم أننا بحاجة إلى أن نطرق بمطرقة من حديد كي نفتح النوافذ كلها على الغيم؟ - الرواية تطرح استنتاجات وأبعاداً فكرية ووجدانية عدة استدعت سنوات من التأمل والتقصي والترصد لفكرة طريدة أو شعور مبهم، والرواية ترمي رماح الأسئلة في كل اتجاه، إنساني عقائدي وطني مجتمعي، ولا تكتفي بوصفها اجتماعية فحسب، وهي ليست للمرأة من دون الرجل وإن كانت الشخصية الرئيسة فيها البتول، لكن المعاناة وسبل النجاة ليستا دمغتين محفورتين على جبين المرأة وحدها. لطالما بقيت المرأة رهينة ظروف ومصالح عظيمة أكبر منها، ومن رفيقها الرجل، واليوم لن نبالغ إذا ادّعينا أن النوافذ موصدة في جوانب البيت الخلفية ومشرعة في جوانبه الأمامية، النور له أن يتسرب إلى الأجواء باختيار أصحاب المكان، والمفارقة المضحكة هنا أن تناقضات كبيرة بين شارع وآخر وبين كيان وآخر أحياناً تحت السقف الواحد يعوق السير في اتجاه واحد، ولتحقيق أهداف موحدة، وأرى أن عدم وحدة الصف في تحديد هويّة المطالبات يعطّلنا عن تحقيق تغيير يُذكر، ربما لأن بعضهم منشغل بالمراقبة والاعتراض وأدلجة الآخر أكثر من الانشغال بعمل مؤثر وإنجاز يقارب وجهات النظر، وهذا يجري على المرأة والرجل. > تطرقتِ إلى غياب الحوار الرزين بين الأب وابنته، وهذا شائع في القرى النائية، ومن هم على مستوى بسيط من التعلم.. في رأيك متى يتحول الأب إلى صديق؟ وكيف من الممكن أن يُسهم ذلك اجتماعياً في بناء أسرة ناجحة متحابة؟ - إذا كانت الأسرة نواة المجتمع الصغيرة، فالأب هو عماد المجتمع وسلطته التي أُريد لها أن تكون ذكورية وفرضت عليه مقوّمات ذكوريته وقبليته ومجتمعه الصغير أن يتمسك بها، إنما هي المحرّك له في اللاوعي إلى تدمير سلامة أسرته النفسية أو ضم أفرادها تحت جناحه، بعض الآباء يدركون متأخراً جداً أن لا سبيل إلى الحفاظ على كينونة الأسرة واتحادها إلا بالصداقة وعلاقة التفاهم واحترام استقلالية كل ابن على حدة، ليس الأب ملاماً هنا؛ لأنه إنما كان صدى لمحيطه ينفّذ ما يُملى عليه من عادات ويتقيّد بتقليد الآخرين ليتماهى معهم ويشبههم. وفي النهاية هو يبحث عن الأمان عندما ينسجم مع قناعات الآخرين حتى لو لم يكن مقتنعاً بها تماماً في أعماقه، وهذا ما يجعلني أكرر نبذي للتوصيفات مثل ذكورية المجتمع التي لا أؤمن بها، لأن «الذكور» لا يبذلون جهداً أقل في الصراع الطاحن عن الإناث. القوى العظمى هنا للقبيلة والعائلة الكبيرة الممتدة بقوانينها الصارمة التي لا تخضع -مع الأسف- لمساءلة أو مراجعة في معظم الأحيان على مدى أجيال كاملة. > كتبتِ الرواية بلغة شعرية جميلة ومكثفة، حضرت الصور والمجاز فيها بعناية تامة.. هل نحن أمام شاعر تأخر الإعلان عنه أم للقراءات المنتظمة والثقافة الذاتية دور في خروج الرواية للعلن بهذه اللغة العالية؟ - أشكرك للرؤية العميقة للعمل، ربما هو وعي تراكمي ناجم عن تأمل طفلة كانت تختبئ بخجل في حجرتها لتلتهم الكتب الممنوعة في كل المكتبات، كانت تستمع للموسيقى وتشاهد المسلسلات وتنصت لقصص الآخرين وتتخذ بعد ذلك موقفها الخاص، الاستقلالية في الفكر هي عنوان مهم لكاتب متجدد، كاتب لا يسرق ولا يحاكي غيره، ولا يقتبس ولا ينظِّر، بل يفكر فحسب. وإذا ما استعصت فكرة فليس من الضرورة الاستعجال بالحكم عليها، فالحياة معترك حقيقي لبناء الكاتب اليقظ، ومعايشة كل التفاصيل بإخلاص حتى العمق هي ما يجعله يدرك قيمة النجاة من محنة والخروج من فوهة بركان كان نشطاً وهو بداخله، وبذلك تصبح المفارقة العجيبة هنا أن المغامرات المرعبة في أروقة الحياة هي ما يصنع الحياة المشرقة بعد ذلك. وأضيف أن الكاتب بحاجة دائماً إلى ترشيح مشاعره وتنقيتها وتلميعها كما يلمّع حذاءه المفضّل أو سيارته المنهَكة؛ لأنها أداته في التقاط دهشة ساكنة عالقة بين هنا وهناك، همسات الأشياء والطبيعة والأرواح. كنتُ -ولا أزال- منصتة جيدة. > الرواية النسوية -إذا صحت تسميتها في بلادنا- إلى أين تمضي؟ - ترافق الرواية النسوية، الحركة النسوية الديناميكية في المجتمع السعودي، مثلما هي حال تطور الأعمال ومجالات العلوم ومحاولات رفع مستوى الضغط والمطالبات بمزيد من الحقوق الطبيعية، تتطور الرواية في تناولها وطرحها لهموم المرأة المعاصرة ودراسة عصرين دراسة دقيقة هما من الفارق بحيث تعتبر التحولات بينهما مادة دسمة وزاخرة للروائيين، في رأيي حدس الكاتبة السعودية المدرّب الآن- إلى جانب قدراتها الفنية الأخرى- سيقودها لإصدار أعمال جادة في السنوات القليلة المقبلة. > هل الرواية السعودية بيضة ديك لا تفقس، فمنذ فوز عبده خال والروائية رجاء عالم غابت الأسماء السعودية عن الحضور في البوكر ولم تصل للقائمة القصيرة إلا لماماً.. كيف تقوِّمين الرواية السعودية بمثيلاتها العرب؟ - تحقيق الحضور بحد ذاته نجاح يُحسب للرواية السعودية على الساحة العربية في الوقت الراهن. والسؤال: كم يلزمك من العمر والتجربة والمماحكة والتحليل لتكتب عملاً يبقى في ذاكرة الناس؟ إذا كانت حياتنا متشابهة ونتعمد التشابه حتى لا نخرج من مظلة المجتمع المتماسك وخشية فقدان الأمان الاجتماعي فكيف ستُكتب الرواية؟ > هل مارس النقد في المشهد السعودي سطوته في إبراز أسماء وأعمال لا تستحق التوقف عندها؟ هل واكب النقد الحركة الإبداعية وأضاف إليها أم أنه ما زال يهوم على تخوم الأعمال الهشة وليس الجيد منها؟ - النقاد اليوم مرتبكون أمام تردي مستوى بعض الأعمال المتسيدة على أرفف أكثر الكتب مبيعاً، أعتقد بأنهم ينتظرون هدوء العاصفة ليتمكنوا من تقويم ما يبقى في الأذهان والوجدان، فليس مطلوباً منهم قيادة حركة ثقافية يُمْلون فيها على القراء ما يستحق أن يقرأ وما يستحق أن يرمى إلى النسيان، لكن الذاكرة وحدها ستفعل. أستطيع أن أقول إن النقد لم يواكب الحركة الإبداعية؛ لأنه أسير الإعلام أحياناً، وأسير صراعاته مع القيم الفنية الثابتة والطارئة أحياناً كثيرة. > وقع ظلم في المشهد الثقافي السعودي على القصة القصيرة والقصيرة جداً؛ فهي مغيّبة عن الحضور والاحتفاء بها بعدما سيطرت الرواية والشعر على المشهد المحلي في الأندية والمهرجانات الأدبية، متى تأخذ القصة القصيرة حظها في الحضور وأنت الآن عضو في بيت السرد لثقافة الدمام؟ - نعمل في بيت السرد على إقامة فعاليات متنوعة ترضي جميع الاهتمامات لدى محبي السرد وعشاقه بأنواعه المختلفة، من بينها أمسيات قصصية لكتاب من الشبان والشابات الرائعين التي تتيح لهم فرصة تقديم أعمالهم وقراءة نصوصهم من القصص القصيرة والقصيرة جداً، وأؤكد من خلال هذا الحوار أن منهجية بيت السرد عامرة بالمحبة لكل الأطياف السردية والفكرية ولا تغفل جهداً إبداعياً لافتاً لمجرد أنه يفتقر إلى صيت ذائع. > «الحب محاولة لاختراق كائن آخر، لكنها لا تنجح إلا إذا كان الاستسلام من الطرفين» (أكتافيو باث) هل قهرك الحب يوماً يا رحاب؟ - بلا طوع ولا إرادة، كمن يمشي فوق سكة حديد والقطار يطلق صافرته محذرا،ً لكنه لا يحيد عن الطريق، ظناً منه أن القطار سيحيد. في الحب تذهب إلى الموت بقدميك منتشياً في قمة السعادة لا مبالياً بقهر أو غدر أو خذلان. في الحب يكون محظوظاً من تُخترق حواجزه الأمنية ويملك مهارة الهجوم في آن، وهذا يكفي لتستكمل رزنامة السنوات سقوطها، في مرحلة ما يصبح الحب منطقة لاختبار قدراتنا فقط وسقف أعلى لرغباتنا وحماقتنا وكبريائنا الذي لا يجتمع والحب بمكان. > «تقوم الرواية الجيدة بإخبارنا الحقيقة عن بطلها، أما الرواية السيئة فتخبرنا الحقيقة عن مؤلفها». (جي كيه شسترتون).. كيف ترين الرواية؟ - عندما تقرأ عملاً مترجماً أو منقولاً من لغة أخرى، لا يساورك أدنى شك أن هناك رابطاً بين البطل والراوي، بل لا يكون هذا مبحثك ولا مسعاك، لكننا نضيّق الوجدان عندما نقرأ عملاً سعودياً ونربطه بكاتبه، وبذلك تتحول من متعة إلى فضيحة ممتعة على رؤوس الأشهاد. الرواية الناجحة هي اقتناص المعاني من العيون التي لم يقرأها أحد سواك، هي القدرة على مشاهدة الخفاء معلناً وغيرك بالكاد يرى العلن.
مشاركة :