يقينًا أنَّ الحركة الإبداعية في تجلياتها المختلفة كانت سابقة للحركة النقدية؛ بل إنَّ كل الأطر التنظيمية لماهية أي جنس إبداعي كانت لاحقة لعملية الإبداع، كما لو أنَّ حركة الإبداع تمضي على انطلاقتها وحريتها، ثم يأتي التنظيم والتقييد والنقد تابعًا لها من ثَمَّ. فقد عرف العرب الشعر منذ القدم على جملة من الأنساق والصور، ثمَّ جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي مقتفيًا ذلك الأثر الإبداعي، مقيِّدًا إيَّاه فيما عُرِف لاحقًا ببحور الشعر، والحال نفسه ينسحب على القصة والرواية وكل فنون الكتابة المعروفة، التي سبقت أطرها التنظيمية والتقعيدية، ثمَّ لحقت بها الأخيرة وجعلتها شروطًا مقيدة استنادًا للسمات الغالبة في منشئ الفن الإبداعي، وهو تقييد تفرَّعت من بعده مناهج نقدية مختلفة، لينظر كل منهج بما يليه من زواياه تجاه النص الإبداعي المعروض على طاولة النقد والتشريح. وإذا أفردنا القول فيما يرتبط بالمناهج النقدية المستدعاة لنقد الرواية، وأثر هذه المناهج في حركة الكتابة القديمة، ودورها في تفعيل الدلالات الروائية، فالتزمنا الإشارة سبقًا إلى أنَّ الاهتمام بالشعر (إبداعًا ونقدًا) في الساحة العربية ظل مسيطرًا بصورة كبيرة لأمد ليس بالقصير، وذلك لجملة من الأسباب يعود أبرزها لسيادة هذا الجنس الأدبي على غيره من فنون الإبداع الأخرى، مع استقرار تراثه النقدي وانتقال جيناته في جسد الثقافة العربية عبر الأجيال المختلفة، ولهذا كان لزامًا أن يتجه النقد بمناهجه نحو الشعر دون منافس. ولهذا جاء اهتمام النقاد بالرواية متأخرًا مع حالة من التوجّس والريبة، تكاد تلمسه في انصراف بعضهم عن هذا الفن؛ باعتباره خديجًا لم يبلغ بعد مرحلة التخلُّق الكامل، والنضج الذي يؤهله للنقد والتقويم. غير أنَّ هذه الصورة قد تبدلت كثيرًا؛ نظير ما لقيته الرواية من حفاوة وإقبال، إنتاجًا، وتلقيًا، ودراسة، ونقدًا. وبنظرة إجمالية فلن يكون عسيرًا على متابع تلمس العلاقة ما بين المناهج النقدية وحركتها تجاه الرواية، أن يلحظ ثمة تشابهًا -يصل في بعض نواحيه إلى حد التطابق والتماثل- بين هذه الحركة وما كان من سيرة الشعر مع النقد، وإن كانت الرواية قد لحقت بالحركة النقدية بعد خلوصها من إسار الانطباعية التي كانت سائدة ردحًا من الزمن، وعرفت الساحة من ثمَّ حركة نقدية علمية، لها ضوابطها ومرجعياتها التي تحدد مساراتها بصورة أكثر وضوحًا وجلاءً.
مشاركة :