رشا حلوة: أسئلة عن الحبّ في زمن الغربة

  • 2/14/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في مقالها* لـ DW عربية تتناول الكاتبة الصحفية رشا حلوة، وبمناسبة "عيد الحب" أسئلة تعيشها عن الحب في برلين، المدينة التي يمكن أن تُصنّف "غربة" بالنسبة لها ولكثيرين يعيشون فيها. "أنا شخصياً يشغلني الحبّ كما الطعام. لا أرى سؤال الحب منفصلاً عن سؤال وجودي كإنسان وامرأة، أو كمن يشغلها الشأن العام وحقوق الإنسان". لربما نحتاج لأن تكون هنالك مناسبة ما من أجل الحديث عن "الحب"، مثل "عيد الحب" أو الفالنتاين، وعلى الرغم من النقد الذي يمكن أن نُغرق به هذا اليوم، لارتباطه بالاستهلاك وتحويل المشاعر إلى مادية ومظاهر في أحيانٍ كثيرة. إلا أنه ينجح بشكل ما أن يحملنا للحديث عن الحب علناً، على الأقل، لمرة واحدة في السنة، في زمن، تُخنق فيها كل تعابير الحب المتنوعة، بل ويُحاسب عليها البشر على يد أنظمة قمعية ومجتمعات أبوية ذكورية. أنا شخصياً يشغلني الحبّ كما الطعام. لا أرى سؤال الحب منفصلاً عن سؤال وجودي كإنسان وامرأة، أو كمن يشغلها الشأن العام وحقوق الإنسان. لا أعرف السبب المحدد، أو الأسباب المحددة التي جعلتني أفكر بالحب كثيراً، لربما هو البيت، أي العائلة، أو السينما والثقافة عموماً، أو لربما هنالك أسباب نفسية أعمل جاهدة بأن أفهمها، تلك المرتبطة أيضاً بكوني امرأة، كما ربطت مجتمعاتنا والمنظومات الاقتصادية الرأسمالية والدينية الحبّ بمعادلات "أبدية" وشراكات زوجية وبناء عائلة وأمومة وعطاء لا نهائي على حسب الذات. كلها احتمالات معقولة، لا تغضبني بقدر ما تشغلني كي أفهم وأعرف أكثر عن ماهية هذه العواطف التي تشعرنا أحياناً بأنها "فوق الطبيعية"، إلا أن هذه العواطف هي نحن، البشر. لكن السؤال هو عن مدى قدرتنا بالإبحار في مشاعر متنوعة، تحيينا وتؤلمنا في آنٍ. سافرت في أحيانٍ كثيرة بحثاً عن "الحب"، عشت علاقات عاطفية بدأت من شاشة الحاسوب واستمرت إلى طلب تأشيرات دخول وشراء بطاقات طيارة وسفر إلى بلاد غريبة وأحبها، من أجل أن أعيش ما أعرفه عن الحب، أو ما رُسّخ في هويّتي وعواطفي. من رحلات الحب هذه، خلقت بيوتاً عاطفية، بإمكانها أن تكون ملاجئ في الذاكرة، أو دروس حياة أحاول التعلم منها. لكن "بدون ضغط".  شغف السفر هذا، حملني أيضاً إلى برلين. وبرلين، لأسباب متنوعة، تُعتبر "غربة". ولكلمة غربة لا من مرادف في لغات عديدة، نجد نفس الكلمة في الفارسية والتركية، فهي ليست تماماً المهجر ولا الشتات ولا المنفى، هي غير مرتبطة دوماً بمكان جغرافي والانتقال إلى مكان جغرافي آخر، بإمكان الغربة أن تكون شعوراً داخلياً، حتى في البيت أو مسقط الرأس، أو على سبيل المثال، عندما يسافر الحبيب لفترة طويلة، أو عندما لا يمكن أن يلتقيا عاشقان لأسباب عدة، بإمكان كل منهما أن يشعر "بالغربة"، أو بإمكان أن يعيشان تحت سقف واحد، لكن يشعرنا "بالغربة". جئت إلى برلين، كي أخفف "غربة" ما أشعر بها. ترتبط هذه الغربة في بلدي ووطني، ضمن سياق سياسي يعمل جاهداً بأن يجعلنا نشعر بغربة في بيتنا. اتسّع هذا الشعور في الرغبة بالبحث عن حبّ أيضاً، في مكان أصبحت أشعر أنه ضيقاً على روحي… أريد أن أسافر بحثاً عن الحب. أذكر عندما أخبرت أمي برغبتي أن أسافر إلى برلين وأجرب الحياة هناك، وأعطي فرصة لنفسي بأن أرى إمكانيات المدينة، كانت من  الأمور التي تحدثت عنها معها هي الحاجة بأن أعيش في مدينة فيها احتمالات حبّ عديدة، هذه الاحتمالات تعطي وساعاً للقلب، وأملاً أيضاً، خاصة لمن يبحث عن علاقة عاطفية وشراكة ما. فجئت إلى برلين، والتي خففت عني شعور الغربة في مناح حياتية عديدة، لكن بنفس الوقت، فتحت باب الأسئلة عن ماهية الحب على مصرعيه، وهذا كان جديداً ومفاجئاً وأحياناً ثقيلاً، فأنا لم أعرف معادلات الحب والمدن الكبيرة في هذا الزمن تحديداً، وقبل أن أعيش في برلين، وأستوعب أني لست بسائحة بعد. هنالك أشكال حب سمعت عنها ورأيتها في الأفلام، خاصة تلك البعيدة عن "هوليود" بالمفهوم المجازي، لكن الحقيقة تختلف عن الأفلام، أو هكذا اعتقدت. وضمن هذا أفكر اليوم بعاملين، الأوّل هو ما تمنحه المدينة الكبيرة، التي يرتكز عدد سكّانها بجزء كبير على الشباب والشابات، كما أن حركة الانتقال إليها، تتوسّع مع الوقت، فتعيش فيها ثقافات عديدة، ولكل منها، أداءات ما مع الحب وتجاهه، كما أن احتمالات التعرّف على آخرين، هي كثيرة، كما احتمالات التجريب، وبالتالي، كيف تمنح هذه الحقيقة فرصة لأن تمشي العلاقات نحو العمق؟ أو حتى، نحو منح فرصة للتجربة؟ الأمر الثاني، الذي أفكر فيه عندما أفكر بالحب وبرلين/ المدينة والغربة، هي أسباب اللجوء التي تدفع البشر للهجرة، سواء القسرية أو الاختيارية. كما وأفكر بتأثير الظروف السياسية على البشر وقدرتهم على التواصل مع العاطفة، والخوف المشروع منها أيضاً. فعالمنا يعيش في ظروف سياسية واقتصادية قاسية، يدفع ثمنها العديد من البشر، سواء نعرفهم أو سمعنا عنهم، ولهذه الظروف بالضرورة تأثيراً على النفس والصحة النفسية، ومنها على المشاعر أيضاً. أتعلّم كثيراً وأنا في برلين، عن أشياء متنوعة، بما في ذلك عن سؤال الحب الذي يشغلني، كما قلت أعلاه. في سيرورة التعلم أيضاً، أحاول أن أتحرر من أفكار "ثقيلة" عن الحب، تعيش فيها سؤال التملك والامتلاك، كما وعامل التبعية للآخر وحتى للمشاعر، أو يقين الأبدية في الحب. أحاول في مسار التعلم، أن أربط الحب بشعور التحرر، وبأن في الحب، المتنوّع في أشكاله ودرجاته، هنالك شعور بالحرية والفرح أيضاً، مع منح الأحقية الكاملة للحزن وسط كل ذلك. الانشغال في الحب، هو سؤال الفلسفة أيضاً، سواء تلك التي كتبها فلاسفة عظيمين، أو تلك المعاشة في أحضان الناس سراً. ليس بالضرورة أن نحكي عنها علناً، وليس جميعنا يرغب في أن يعبّر عنها بصوتٍ عالٍ، أحب ربط التعبير عن الحب بالأفعال، كأنها أصدق من الكلام. كأن الصمت له الحقّ الكامل بأن يكون أيضاً تعبيراً عن الحبّ. في الغربة أو في البيوت، يجد الناس طرقاً للحب. لكن من المهم الإشارة، أن في حديثي عن الحب هنا، لا أنسى كل ما ينتج من عنف وتعنيف باسم الحب. ليس هذا الحب الذي أقصده، والأكثر من هذا، من الأشياء التي أحاول تعلمها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، هي أن لا أقبل السكوت عن ظلم أو ألم لأني "أفهم" أنه نابع "من حب". أحاول أن أتمسك اليوم، كامرأة وكمن تعيش في الغربة، أن تخفف الثقل الذي حمّلوه للحب، أن تقنع نفسها دوماً بأن الحب بإمكانه أن يجعلنا سعداء وأقوياء طبعاَ... وأن السعادة ليست خطيئة، كما أن الحب والجنس ليسا خطيئة… وأن الذي سيخفف شعور الغربة، هو حبّ الذات، بعيداً عن النرجسية، من خلال محاربة كل الأفكار التي منعتنا من حبّ أنفسنا، وأخبرتنا أن العطاء للآخر على حسب أنفسنا، هو الأهم. وأقصد بأنفسنا، النساء تحديداً. لربما، كان عليّ أن أسافر بعيداً، كي أجد أساسيات هذا البيت. رشا حلوة * المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.

مشاركة :